مدارات

الدليل، تجربة ومعاناة! (21) / مزهر بن مدلول

قبل ان انتقل الى (التاجي) كنت في مدرسة تدريب في معسكر (الرشيد)، وهذا هو المكان الاول لي عندما التحقت في الخدمة الالزامية، امضيت في المعسكر خمسة واربعين يوما دون ان اخرج الى اي مكان، اما الاجازة فغير مسموح بها الّا بعد ان تنتهي الدورة التدريبية التي مدتها ثلاثة شهور.
في احد الايام واثناء (القصعة) تمازح اثنان من الجنود مع بعضهما، وهما صديقان ومن مدينة واحدة هي (كَرمة بني سعيد) في الناصرية، وكانت المزحة حول (خيارة) اخذها احدهما من يد صديقه وهرب بها وهو يضحك، فما كان من الاخر الاّ وان ركض خلفه شاهرا بندقيته ومازحا ايضا، ورغم ان البندقية خالية من العتاد، لكنّ (حربتها) كانت حادة وجاهزة للاستعمال.
لم اعرف بالضبط كيف حصل ذلك، هل تعثر الصديقان بسبب الجري السريع، ام انّ الاول توقف عن الركض فجأة والاخر مستمرا، لا ادري كيف غاصت الحربة في ظهر ذلك الشاب الصغير الذي مات على الفور، فقد كان المشهد مؤلما جدا وابكى جميع جنود الوحدة العسكرية، وحتى العريف الذي كنّا نتصوره بلا قلب ينبض كان يبكي، والاكثر ايلاما هو عندما جاء الانضباط العسكري ليقود مرتكب الجريمة الى السجن، وبدا القاتل انه في حالة جنون كاملة!.
بسبب هذه الحادثة، حصلت على اجازة لمدة خمسة ايام لكي ارافق الجنازة الى الناصرية، ولما عدت منها قررت ان امرّ في بغداد التي لم ارها في حياتي، واقصد الامكنة التي طالما سمعت عنها (الميدان، الرشيد، النهر، ابو نؤاس،.. الخ) ، فأخذت سيارة الاجرة من (كراج النهضة) الى (باب المعظم)، ثم ذهبت الى ساحة الميدان، وكنت مبهورا بكلّ مارأيت ( الدكاكين والمقاهي والبنايات والنساء..!) كأي قروي يدخل المدينة لاول مرة.
صعدت في باص (ابو الطابقين) الذي سيسلك شارع الرشيد باتجاه السعدون، واخذت لي مقعدا في المقدمة من الطابق الاعلى لكي تتاح لي فرصة مشاهدة هذا العالم الجديد من فوقّ، كان الشارع مزدحما جدا وامام الباص كانت تسير سيارة صغيرة وامامها سيارات كثيرة والناس تقطع الشارع من الجانبين بطريقة فوضوية، وفي مسافة محددة كان الباص يسير بسرعة ولم يترك مسافة معقولة بينه وبين السيارة التي امامه، ولمّا توقف السير فجأة، حجبت مقدمة الباص السيارة الصغيرة عن عينيّ، فلم اعد اراها وكأنّ الباص ابتلعها، فأصابتني صدمة قوية ووقفت في مكاني وصرخت بأعلى صوتي (سحكتها.. سحكتها)!، فزّ جميع الركاب من صوتي وراحوا ينظرون من النوافذ ليعرفوا ماذا جرى، ولمّا تحرك السير من جديد رأيت السيارة مرة اخرى تسير امام الباص! فحمدت ربي بأن الامر ليس كما توقعت، اما الركاب فأنتهزوا تصرفي ليحولوه الى لعبة مثيرة للضحك، فواحد يقول(خطية جندي) وآخر يقول (معيدي) (وكل اشوية يصرخ احد الشباب من المقاعد الخلفية: (سحكتها.. سحكتها) وتتعالي القهقهات، ولم اتخلص من حالة الخجل الى ان نزلت من الباص وضعت في الزحام!.
تكررت هذه الحالة، ففي ليلة حزينة من ليالي الغربة التي عشتها في الكويت، وبينما كنت اتأمل حياتي والخواء الذي اشعر به، أتخذت القرار المغامر والخطير في العودة الى العراق وليكن مايكون!.
في صباح اليوم الثاني ذهبت الى السفارة العراقية للحصول على جواز مرور، وهو عبارة عن (ورقة مكتوب فيها، الى شرطة حدود صفوان يسمح للمواطن الداخل بطريقة غير مشروعة مغادرة الاراضي الكويتية الى العراق)، طبعا هذا الجواز معمول فيه من زمان واستخدمه (الرفاق) في السفر من الكويت الى (اليمن) وانا ايضا سافرت الى عدن بأستعمال هذه الورقة.
حصلت على (الجواز) وذهبت الى الخطوط الجوية العراقية لكي احجز لي مكانا في الطائرة، لكنهم رفضوا في بداية الامر، واستغربوا بأنّ الجواز يخاطب شرطة حدود صفوان وأنا اريد السفر الى بغداد، وبعد (التي والكان والحجج الواهية) ابتعت منهم بطاقة السفر.
قبل السفر ذهبت الى السوق واشتريت (قاط) بلون بيجي وقميص احمر وحذاء جديد، ولمّا جاء الموعد، حملت حقيبتي ورحت الى المطار، وهذه هي المرة الاولى التي اسافر فيها بواسطة الطائرة وليس عندي اية معلومات عن الاقلاع والهبوط والتحليق، وكان يجلس الى جانبي في هذه الرحلة رجل في الخمسين، ويبدو من خلال هيئته بأنه من (المقاولين) ويمسك بيده مسبحة مرصعة بحبات بيضاء، هذا الرجل علمني كيف اربط حزام الامان وطريقة التعامل عند الاقلاع واشياء اخرى يعتقد انها مهمة، وسارت الامور على مايرام حتى حلّقت الطائرة في السماء.
تعرضت الطائرة في الجو الى مطبات خفيفة كانت تحصل بين الحين والاخر، ورغم اني كنت خائفا لاني اجهل هذه الامور، لكني تماسكت ولم اقل شيئا، وعندما واجهت الطائرة مطبا قويا وارتجّت بسببه رجة عنيفة، لم استطع ان اصبر، فأنتفضت بنفس الطريقة التي كنت فيها داخل الباص وصرخت بصوت مرتفع: (طاحت.. طاحت )!، لكن الرجل مسك يدي وقال: (هاي اشبيك ابني، انت شنو مشايف، شنو طاحت اتريد ترعب الركاب..)، فنظرت له بخجل وقلت: (مو مني كل الصوج، من هلي واللة!).
وصلت الى مطار بغداد يغمرني شعور ملتبس لاهو فرح ولاهو خوف، هذه هي البلاد التي سكنت في كياني، هنا الوجود والصفات والمعاني، هاهي بغداد التي كانت قبل ايام تزهو براياتها الحمراء، وبدت اليوم حزينة وشاحبة وخائفة.
لم يعترض طريقي احد، وما ان فتشوا حقيبتي تركوني حرا، لكني عندما خرجت من المطار شعرت بأني دخلت وسط النار، وتبخر الامل والفرح والحنين الى الوطن تماما، ولم يبق لي في تلك اللحظة المضطربة الاّ ان ابحث عن (الدليل) الذي يعيدني الى الصحراء.
 

القسم 20