المنبرالحر

التاريخ.. وبقع الجرائم السوداء / ئاشتي

يتشظى حزنك وأنت تقرأ وجه التاريخ القريب، وتفر روحك حزنا على لحظات حب مزقها مجرمون قساة، حتى لكأنك ترى السواد هو اللون الذي يليق بهذا الوطن، حيث لا مرفأ ولا يابسة تستقبل هيجان الروح، فأين تولي وجهك ووطنك يئن من جراح الأمس بكل انفعالاته، ويبكي بكل دموع الأرض الضحايا التي تسقط كل يوم من أبنائه وقد تلاشت كل أضواء الأمل من العيون، مثلما تلاشى وهج الفرح في عيون الفتيات، الأسئلة تمتص رحيق الأزهار اليانعة وليس هناك من إجابة واضحة لجنونها، حتى بدت علائم الشك بمصداقية التاريخ ترسم عالمها في أذهان الجميع، لاريب من أن التأريخ سجل بكل امتعاضه تلك الصفحات السوداء، ولا ريب من أنها بقع تلطخ غرته، ولكن المحزن في ذلك التسجيل لم يعد قابلاً للقراءة بشكل واضح، وعدم الوضوح هو امتهان لدماء الضحايا، مثلما هو امتهان للتاريخ نفسه، وهذا الامتهان يبدو واضحا حين تتوفر الظروف الملائمة للكشف عن تلك الصفحات، حيث يحاول من تتوفر لديه القدرة على القراءة الصحيحة لتلك الصفحات أن يجعلها صفحات خرساء، لا تنطق إلا بما يريد هو ان يصنعه لنفسه، وهذا بحد ذاته يجعل تلك البقع السوداء في تاريخ بلادنا قاتمة أكثر، إذ أنهم يغتصبون تلك الأيام بكل ما يملكون من تزييف للتاريخ، ويتنكرون للدماء التي تَشبع بها جسد الوطن، وكأن هذه الدماء لم تكن دماء عراقيين أحبوا هذا الوطن بكل ما يملكون من حب في خلاياهم.
يتشظى حزنك وأنت ترى التاريخ القريب يتشظى بين قرارات الذين يتحكمون بمصير التاريخ المعاصر، تشعر أنهم يضيفون بقعا سوداء أخرى للبقع التي خلفها أسلافهم على غرته، فقد تنكروا لدماء الشيوعيين التي صبغت وجه هذا الوطن ولم تمر أكثر من خمسين عاما على هذه الدماء، يوم اشتعلت مدن العراق بصراخ الرعاع وهم يتنادون على قتل الشيوعيين، حتى أضحت تلك البقعة من التاريخ سوداء بعمق حقدهم على كل ما هو جميل في الحياة، فجريمة الثامن من شباط 1963 حفرت في وجه التاريخ العراقي المعاصر أخدودا من القتل المجاني، وكأنهم أرادوا أن ينتقموا من كل الخيرين بهذا الوطن، أو أرادوا أن يذبحوا كل الجمال بسكين حقدهم.
يتشظى الحزن ولكن الأمل في الروح يتناسل رغم كل هذا التشظي، فيزهر الفرح بيوم جديد آخر مثلما يقول الشاعر الألماني غونتر كونرت، لأن القتل لابد أن يتوقف ولم تتكرر تجربة الموت ثانية.
( لما انتُشل الإنسان،
من تحت أنقاض بيته المقصوف،
هَزَّ جسده
وقال لن يتكرر ذلك أبدا،
في كل الأحوال، ولكن ليس الآن.....)