المنبرالحر

القادة العراقيون .. مائة عام من الانتصارات الزائفة ..!!/ علي فهد ياسين

في الثامن والعشرين من تموز القادم يكتمل قرن على بدء الحرب العالمية الأولى , التي أطاحت بخرائط الجغرافية والنظم الاقتصادية وغيرت توجهات السياسة لصالح مخططات المنتصرين , بعد أن دفعت الشعوب فواتيرها الباهضة .
ما يهمنا من القرن الذي مضى هو حصيلة جرد التفاصيل العراقية خلاله , وهي في محطاتها الرئيسية تبدأ من أنتهاء أربعة قرون من السيطرة العثمانية لصالح الاحتلال الانكليزي , الذي فرض معاهدة ( سايكس - بيكو ) قبل أن يغير من عنوان هيمنته من احتلال الى أنتداب ,ويقف خلف سدة الحكم التي أختار لها نظاماً ملكياً لعائلة ليست عراقية , استمرت في الحكم حتى ثورة تموز عام 1958 التي أعلنت العراق نظاماً جمهورياً ووضعت حداً للتدخل البريطاني سياسياً واقتصادياً من خلال سلسلة من القوانين والأجراءات التي حققت بموجبها التحرر السياسي والاقتصادي للقرار الوطني العراقي , مما أثار حفيظة الغرب ساسةً وشركات ودفع المخابرات البريطانية والأمريكية للتنسيق مع جمال عبد الناصر وحزب البعث للاجهاز على الثورة في الثامن من شباط الاسود عام 1963 , في سابقة أولى أسست للعنف الدموي الذي تنفذه السلطة ضد مواطنيها , حين أقدمت ( قطعان الحرس القومي ) من تنظيمات حزب البعث المدججة برشاشات ( البورسعيد المصرية ) , على أرتكاب المجازر الوحشية ضد الوطنيين العراقيين المدافعين عن ثورة تموز من الشيوعيين وأنصارهم , خلال ستة شهور دموية قبل أن تتم أزاحتهم عن المشهد السياسي , بعد رفض عالمي مشهود لجرائمهم التي يندى لها الجبين الانساني , لكن عودة البعثيين بقطار سادتهم الامريكيين في تموز من العام 1968 كانت مرسومة بسيناريو جديد ملائم للأوضاع السائدة في المنطقة بعد هزيمة حزيران 1967 ,فقد كان لزاماً على الجميع أستثمار حالة الانكسار العربي حينذاك كي تكون العودة مقبولة لشارعِ ساخط على حكامه المنكسرين امام أسرائيل , وخطاب البعثيين أقرب عاطفياً للعامة لأنه مكتنز بالحماسة الملائمة للوضع النفسي الذي تعيشه الجماهير رغم التأريخ الاسود لهم في العراق تحديداً, وما حدث خلال الاربعة عقود التي دمروا بها العراق لغاية سقوطهم المشين في العام 2003 لا يحتاج الى تفاصيل .
الآن ونحن نستعرض المشهد العراقي خلال المائة عام الاخيرة , لابد لنا أن نميز بين دورين فيه , الأول للقادة الذين تصدروا المشهد السياسي وساهموا في رسم خطوطه وتسببوا في نتائجها , والآخر لعموم الشعب الذي تحمل تلك النتائج بكل تفاصيلها , فبينما كانت شعوب الأرض تنتقل من مربع الى آخر أفضل منه , رغم أن قادتها لم يكونوا دائماً على نفس المستوى من الأداء المفيد , وكان بعضهم قد أساء وأخطأ وتسبب في كوارث , الا أن آخرين أعادوا للميزان توازنه وللبوصلة اتجاهها النافع والمفيد , وكان ذلك في أكثر من بلدِ في قارات الارض , وحتى في البلدان الضعيفة بامكاناتها البشرية والاقتصادية وفي تأريخها الحضاري , خلافاً للعراق الذي تحول من سيئ الى أسوأ على مدى تأريخه الحديث في المائة عام التي نعنيها .
لكن الأهم من هذه النتيجة المؤلمة هو ما كان يتبناه القادة الذين تسببوا في الخراب العراقي من سياسات متخلفة وبدائية في التعامل مع الشعب , حين حولوا الخدمة التي يقدمونها له كقادة الى سلطة يستعمروه بها كحكام متسلطين على رقابه , لقد توحًد هؤلاء في خطابهم الأعلامي على منهج واحد رغم تقاطعاتهم الفكرية , هو منهج المنتصر على الآخر حتى لو كان الآخر هو شعبهم , وقد أرخت خطبهم وفلسفتهم السياسية أمثلةً صارخة من مهازل تفاسير تعتمد ( لي الحقائق ) ومحاولات تطويعها باتجاه تتعارض كل مناهج التفسير مع تفاصيلها , حتى عجزت أجهزة اعلامهم بكل امكاناتها على تبييض سوادهم الكالح أمام أنظار العالم قبل أنظار شعبهم , فمن هزيمةِ الى أُخرى بالتتابع دون أن يرف لهم جفن ولا تسهر لهم عين , وقد تحمل الشعب من جراء استهتار حكامه كل ألوان الضرائب القاسية وصولاً الى ضريبة الدم المتصاعدة منذ الاستقلال والى يومنا هذا والتي دفعها ومازال خيرة أبناءه .
لقد تعود قادة العراق الحديث خلال المائة عام الماضية على ادعاء الانتصارات في جميع المنعطفات السياسية التي مرت بها البلاد , فحين سقط الحكم العثماني وجاء الاحتلال الانكليزي كانوا منتصرين , وبتنصيب الملك فيصل الذي لم يكن عراقيا كانوا منتصرين , وحين أجهزوا على ثورة تموز ومكاسبها بردة شباط الدموية كانوا منتصرين , وفي الحرب مع ايران التي تسببت بكوارث بشرية واقتصادية كانوا منتصرين , بدمار العراق بعد غزوا الكويت والحصار القاتل كانوا منتصرين , وبالغزو الامريكي وكوارث الطائفية والفوضى والارهاب الذي استباح العراق هم أيضاً منتصرون , وبالفساد الضارب كل مناحي الحياة منتصرين , ووو بكل ما يخطر على بال العاقل تجد القادة العراقيين منتصرين , ولم يخطر ببال أحد منهم طوال العقود الماضية أن يفكر ولو لحظة بنتائج هذه الانتصارات المزعومة على واقع الحال الذي يعيشه المواطن , كيف وصلنا الى كل هذا الخراب اذا كنا منتصرين على طول الخط ؟ , ولماذا لم ينجب العراق قادة وطنيون حقيقيون شجعان يصارحون شعبهم بتفاصيل الاخفاقات التي تعرض لها بسببهم ويشاركوه العمل الجاد من اجل أنتصارات البناء الحقيقية وليست الانتصارات الزائفة التي يتغنون بها على حساب دماء الابرياء من مواطنيهم ؟.
لقد أعترف العرب مرةً واحدة بهزيمتهم وذلك في حرب حزيران ضد اسرائيل في العام 1967 , وقد تسبب ذلك الاعتراف بانتصارهم في حرب اكتوبر عام 1973 , لكن ذلك الدرس لم يكن كافياً ليتحول الى منهجاً لهم , فقد عادوا الى سليقتهم المدمرة في ادعاء الانتصارات الزائفة , وقادة العراق ليسوا استثناءا .