المنبرالحر

مع الجواهري بعيدا عن السياسة و"الادب"!!! 1-2/ كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

 القسم الاول
برغم ما تشهده البلاد العراقية، وشعوبها من "منغصات" وآلام بل ومآسٍ، تدوم وتدوم، دعوني- لعلّنا نغير بعض الاجواء- اسوح بكم في بعض عوالم وخصوصيات محمد مهدي الجواهري، الصالحة للنشر طبعا، والتي لا يعرفها سوى معدودين، كما أحسب ... وقد يعجب البعض من بعض تلكم الخصوصيات، ولا يستطيع ان يتوقعها ذات صلة أصلاً، بذلكم الذي شغل القرن العشرين: شعراً وفلسفة ورؤى ومواقف، سياسية ووطنية وفكرية وثقافية .
وأغلب ما سأبوح به، يجئ معايشات يومية، وشهادات عيان، ولاسيما في براغ، جنة الخلد، التي اطالت الشوط من عمره، كما ثبت ذلك في قصيدته الشهيرة عام 1968 .. فقد شيئ لي ان اكون معه، على مدى أزيد من 12 عاماً، بكل يومياته، وأمزجته- وليس مزاجه- وشجونه وهمومه وافراحه واستراحاته!!!... ولنبدأ بالملموس فنحن في سرد بعيد عن" الادب" كما هو عنوان هذه الكتابة، وها نحن نسعى لأن نكون كذلك، وسنوثق دون ترتيب ولا تزويق، وعلى السليقة كما يُقال. ولكن، ومع عفوية الكثير مما سنتوقف عنده، نظن ان ثمة العديد من المدلولات التي تؤشر لجوانب من حياة الجواهري، العامة....
1- وزارة خاصة لشؤون الجواهري
في الطريق لايصاله الى مطار براغ، اواسط الثمانينات، انهمرت علينا طلبات وتوصيات الجواهري، المتلاحقة، علينا، أنا ونجله نجاح، ومن بينها ان ندفع ايجار الشقة، ونرسل له شاي الاعشاب، وحبوب النوم، واصلاح الباب، وتحويل مئة دولار الى العملة التشيكية، وغير ذلك من شؤون ... واذ تمازحنا معه بان تلك الطلبات تحتاج لمجموعة عمل، بل ووزارة لشؤون الجواهري، ردّ علينا، وبكل "رهاوة": وهل تستكثرون علي مثل تلك الوزارة، يـــا "........" !!!
2- يا أم عوف... وأضحى التنائي
في مناكدة معه، وكان ذا مزاج يتحمل مثل تلك" الدهريات" قلت للجواهري: انك "سرقت" لحن وموسيقى وقافية ورويّ :"أضحى التنائي بديلا من تدانينا.. وناب عن طيب لقيانا تجافينا" لابن زيدون الاندلسي، في قصيدتك" يا أم "عوف" عجيباتٌ ليالينا، يدنين اهواءنا القصوى ويقصينا"... فسرح قليلاً، وليردّ بعدها، مع "شتيمة" مزاح: هل تصدق انني لم اكن منتبهاً لهذه المقارنة الا الان، وبعد نحو ثلاثين عاماً على " ام عوف" ....
3- وهو ابن تسعين، لا يعقل!!
أتصل الجواهري ظهر نهار في اواخر الثمانينات الماضية، ليؤجل، بل ويلغي موعدا مضروباً بيننا، مساءً – كما هي العادة شبه اليومية- وكان مرتبكاً، ولكنه ارتباك فرح . ولم يبح هو بالاسباب، ولم اكن فضولياً نحوها ...
وعلى اية حال، اتصل ثانية، بعد العصر بقليل، وكان هذه المرة، بصوت يحمل نبرة حزن، واتفقنا على موعد جديد، عنده في البيت، وأذ بي اجدني انه كان متهيئاً للقاء مع معجبة "شرق – اوسطية" تدرس في براغ، وعدت ان تزوره عصرا، ثم عادت لتتصل به معتذرة، بحجة ان عائلتها منعتها من اتمام ذلكم اللقاء.. وعندها عرفت، سرّ ارتباكه المفرح اول الامر، ومن ثم نبرة الحزن في اتصاله الثاني !!! ولملاطفته لم اقل شيئا سوى ان اردد على مسمعهِ واحدا من ابيات قصيدته التي يناجي بها نفسه عام 1970: "لجاجكً في الحبِ لا يًجملُ، وانت ابن سبعين لو تعقلُ" ... وكان الشاعر، الشاعر، في تاريخ هذه الواقعة على ابواب التسعين !!!!
4- جلســـة في دمشـــق
ليلة مغادرتي الي براغ في اوائل الثمانينات، عائدا اليها من دمشق، بعد قضاء بضعة ايام عمل، ثم استراحة بضيافة الجواهري في مستقره الشامي آنذاك، دعوت اصدقاء معدودين لعشاء هناك . ومن بينهم، بحسب تسلسل حروف الهجاء، لكي لا أزعل احداً: حسان عاكف حمودي، حميد برتو، فالح عبد الجبار، لبيد عباوي، وعبد الحسين شعبان ... واللقطة هنا ان الشاعر الخالد، وكما هي العادة، تسيّد الجلسة والحديث، شعراُ وذكريات ومناكدات سياسية وغيرها، وعلى مدى نحو ثلاث ساعات، وكان هو المتحدث الاول، والاخير، او يكاد. وبعد ذهاب الضيوف، اذ به يضع يديه على اذنيه، ويقول، عندي صداع من كثرة ما تكلم مدعووك !!!! في اشارة استباقية الى انه لم ينقطع عن الحديث طوال اللقاء، وحتى على مائدة الطعام ...
5- عن خطبة حفيدته نادية
جاءني جمال الجواهري، الطالب في براغ، اواخر الثمانينات الماضية، وكان رقيقاً فوق العادة هذه المرة(!) لكي أذهب معه الى الجواهري الكبير، والحصول على "موافقته" بشأن خطبته لـ حفيدته "نادية" من نجله الرابع "كفاح" . وهكذا ذهبنا مساء في الموعد المحدد، وبعد مقدمات شكلية حول الموضوع، سأل الجواهري، وماهو رأي المعنية؟ واذ عرف بموافقتها، أجاب بما معناه: هل هي التي ستتزوج أم أنا؟ أنها صاحبة القرار، وانا لست سوى مؤيد لها... ثم كاد جمال ان يطير فرحا.

القسم الثاني

ها هي بعض "يوميات" اخرى، من بعض المعايشات الخاصة، والشخصية مع الجواهري الخالد، وتأتي، كما جاء في مقدمة الحلقة الاولى، دون تكلفٍ او تزويق، وكما يَشي بذلك، عنوان هذه التأرخة والتوثيق، بعيداً عن السياسة والادب! مع حفنة استثناءات معدودات...

5- عتاب "ساخــن" مع الشيوعيين
في اواخر التسعينات الماضية، أحتفت مجلة" الثقافة الجديدة" العريقة، التي كان يصدرها في دمشق آنئذ، الاعلام المركزي لللحزب الشوعي العراقي، وذلك بمناسبة تسعينية الجواهري، وبملف خاص شمل مواقف وذكريات وغيرها... ومن المفترض، بمثل هذه الحال ان يفرح الجواهري، وقد فرح فعلا، مع بعض عتاب ساخن، للمسؤول الاول عن تلكم الشؤون في حينها، الشخصية الوطنية العراقية، عبد الرزاق الصافي، وهو من القيادات الشيوعية المقربة للشاعر الخالد، ولسنوات مديدة... أما سبب ذلكم العتاب الساخن فهو اعتماد تاريخ ولادة "مشكوك به" للشاعر الخالد، أذ كان يصر على انه كان من مواليد 1903.. بينما كبّر مسؤولو المجلة عمره ثلاث او اربع سنوات !!!

6- في الطائرة من دمشق الى براغ
بعد تشييع اخته نبيهة، وموراتها الثرى، في متربة "الست زينب" الدمشقية، اواخر تموز من عام 1987 عدت مع الجواهري الى براغ، على رحلة الخطوط الجوية السورية، ومعنا نجله نجاح، وقد أهتم طاقم الطائرة كما هو معهود، بالشاعر الخالد، وارادوا ان يستضيفوه بقسم الدرجة الاولى، فأعتذر، وبقينا نتجاذب اطراف الحديث، واذ به، وهو يعرف "رهبتي" من السفر بالطائرة، راح يتغنى متقصداً بعجز مطلع قصيدته "اليأس المنشود" المنشورة عام 1947 : شرٌ من الشر، خوفٌ منه ان يقعا... ثم يكرر، بل ويزيد مفتعلا اسئلة واحاديث تدور كلها حول احتمالات سقوط الطائرة في البحر، وانه لا يجيد السباحة، أو انه يشم رائحة حريق .... وغيرها، وكل ذلك ليزيد من"قـلقي" وانا جالس جنبه، حتى هددته بالانتقال الى مقعد اخر بعيدا عنه، فكفّ قليلا ليعود الى المناكدة، ولم تنته الساعات الاربع، وهي مدة السفر، الا وكاتب هذه السطور تكاد ان تصيبه أكثر من سكتة قلبية، على الاقل ! .

7- موقــــف من التلفزيــــون
خلاف "ادمان" الجواهري على استماع الاخبار من الراديو، الذي كان لا يفارقه حتى على سرير النوم، راح موقفه من التلفزيون، معاكساً تماماً ... وبقي لا يطيق صبراً، وخاصة عندما كان يتحدث، بينما يلتهي الاخرون بذلك الجهاز، ومهما كانت برامجه... واسوق هنا، بالمناسبة، فورة الجواهري الغاضبة، حين كنا نتسامر ذات ليلة في صالته بدمشق، واذ به يشب واقفاً ويستعجل الذهاب الى المطبخ ليأتي بـ "يـدة هاون" لكي يهشم التلفزيــــون، الذى رفع بعـــض اهل البيت من صوتــــه، وهم يشاهــــدون مسلسلا عربياً، ولم يستمعــــوا لطلبه -الجواهري- بان يذهبوا لغرفة اخرى، ويدَعوننا- وبالاحرى يدَعونه- يواصل الحديث، بعيدا عن ضجيج البلهاء، بحسب تعبيره. ثم، ودفع الله ما كان أعظم، إذ وقفتُ حاجزا لمنع ما كاد ان يكون .

8- حوارات ليليـــــــة
خلال سهراتنا بعد ان ينتصف ليل دمشق، التي "أحبَها، لا زلفى ولا ملقا".. كنت اطرح على الجواهري، والعديد من تلكم الليالي كان مع ابنه نجاح، بعض التساؤلات التي ترطب الاجواء، ومن بينها، على سبيل المثال، لا الحصرالذي يطول ويطول:
- ما الأحب للجواهري من شعر غيره في الرد على الحاسدين؟ قال، للطرماح بن حكيم:
لقد زادني حبا لنفسي انني، بغيضُ الى كل أمرئ، غير طائلِ
واني شقي باللئام ولن ترى، شقياً بهم، إلا كريم الشمائلِ
- ومن شعرك أنت في هذا المجال؟ فردّ، بعد لحظات:
أقول لنفسي اذا ضمها وأترابها محفلُ يُزدهى
تساميّ فانك خير النفوس اذا قيس كلُ على ما انطوى
وأحسن ما فيك ان الضمير يصيحُ من القلبِ: اني هنا

9- ثماني عجائب في الدنيا
في جلسة بيتية بين الجوهري ونجله الثالث نجاح، وأذ كان الحديث ما كان! ضجر الجواهري، واذ به يسأل: اتعرف يا فلان كم هي عجائب الدنيا؟ وحين تلقى الجواب التقليدي بانها سبع، ردّ وبكل ثقة: لا، بل هناك واحدة اخرى، وهي اني جالس هنا لاسمع الان مثل هذا " الحديث"...