المنبرالحر

اسطنبول ! هل بدأ خريف (الاسلاميين) ؟القسم الثالث / د. مهند البراك

و يرى مراقبون ان الإحتجاجات السلمية الأخيرة على حكومة اردوغان ليست عفوية او طارئة، بل هي صعود لإحتجاجات متواصلة متفرقة، نتيجة معاناة تتراكم و مخاض حراك سياسي تشارك به الآن احزاب معارضة اردوغان من جهة و الاحزاب و القوى الناشطة و جماهير واسعة تعارض نهجه في التضييق على الحريات الذي يبدو و كأنه يسير في طريق فرض الاسلام السياسي . . و يصفها آخرون بكونها انفجار غضب شعبي للاسباب آنفة الذكر، و تعبيرا عن ضرورة ايجاد حلول و تثبيتا بان للشعب دورا اساسيا في صياغة سياسة الدولة داخلياً و خارجياً و ان الامر ليس اتفاقات فوقية بين كتل متنفذة مترابطة وثيقاً سواء مع الغرب الصناعي او مع الخليج المالي . .
و اضافة الى طابع الحركة واتساعها واستمرارها، فانها لايمكن حصرها في احتجاجات على ازالة حديقة عامة فقط، كما تحاول جهات حكومية ابرازه، و يرى سياسيون ان اردوغان و حزبه استطاعا الحفاظ على الاكثرية البرلمانية من خلال : توفير فرص عمل جديدة للجنسين ـ دُفع ثمنها كما مرّ ـ، اطلاق وعود لحل القضية الكردية حلاً سلميا، التصعيد في مواجهة الجنرالات الداعين للعسكرة و العنف، اضافة الى اعمال التضامن مع ضحايا العسكرية الإسرائيلية من الفلسطينيين . .
الاّ ان تلك السياسة تغيّرت وخاصة بعد الاستفتاء على الدستور الجديد عام 2010 (1)، الذي يسير على خطى انهاء مبدأ الفصل بين السلطات و محاولته احتواء السلطة القضائية و وسائل الاعلام، و التضييق التدريجي على الحريات الشخصية وملامح الدولة المدنية، لضمان تعزيز و تواصل سلطته الفردية على طريق اسلمة الدولة و مركزتها و اتباع سياسة خارجية اقليمية مبنية على دعم الجماعات الاسلامية المتطرفة، والتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان الجوار، ومحاولة تحويل تركيا الى شرطي جديد في المنطقة .
الى جانب اسلمة نظام التعليم، الاعتقالات و غض النظر عن متهمين ضالعين باغتيال صحفيين و مفكرين من اديان و مكوّنات متنوعة، محاكمة العشرات و المئات من ممثلي الشعب المنتخبين و من المبدعين باتهامات باطلة، و تكرار حملات المداهمة والاعتقال ضد النقابيين، و ضد الشباب من الناشطين الديمقراطيين و الطلابيين من الجنسين . . حتى صار و كأنه وجه قمعي لهيمنة اسلاميي المحافظين الجدد، وفق سياسيين و مثقفين اتراك .
و صار وجهاً مخيفاً امام المنظمات النسائية التي ترى ان القانون المدني التركي صار عرضة للانتهاك و التحطيم على يد اردوغان . . القانون الذي أنصف المرأة و ساواها قانونياً مع الرجل، بشهادتها المساوية للرجل، تحديد الزواج بسيدة واحدة، جعل الدراسة من المراحل المبكرة و طيلة مراحل التأهيل و الحياة . . مختلطة من الجنسين، و بالتالي فالتعامل مع النساء في العمل لايتم كما لو انه تعامل مع مخلوقات غريبة، الأمر الذي يضمن الاستقرار الاجتماعي. القانون الذي ساهم بفاعلية باندماج المرأة في المجتمع منذ عام 1920 حين اعتمدت الدولة التركية الحديثة على القانون المدني السويسري، ودخلت المرأة البرلمان منتخبة غير مُعيّنة منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
و فيما بدأت اوساط تتسع من المجتمع التركي ترفض سياسات اردوغان الجديدة، الامر الذي يصفه عديد من المراقبين الاتراك بكونه بدء خريف اردوغان و حزبه بعد ان استطاع ان يكون املاً لها في بداية ظهوره كما مرّ . . يؤكد سياسيون اتراك معتدلون و يساريون بأن مايجري في ميدان تقسيم هو انفجار شعبي لايمكن تقدير مداه و انه يحدث في وقت لا الحكومة مستعدة له فيه و لا المعارضة السياسية، و يشارك فيه اكثر من 10 أحزاب تركية من اقصى اليسار الى اقصى اليمين ـ بينها الجمهوري المحافظ، و الكردستاني . . البرلمانييّن، و الحزب الشيوعي التركي من خارج البرلمان (2) ـ و مجاميع حماية البيئة و معاداة الامبريالية و مئات الآلاف من المحتجين على نهج اردوغان.
و تشارك منظمات نقابات العمال و اتحاد عمال القطاع العام اكبر اتحاد عمّالي في البلاد، و قد طغى الطابع الشبابي و الشباب من الجنسين على الاحتجاجات(3) الذين رفعوا الاعلام الحمراء التي تحمل صور : علم تركيا، جيفارا، قبضة التضامن العالمي، شعارات اكبر ثلاث اتحادات لكرة القدم حشّدت الآلاف من مشجّعيها فيها . .
من جهة اخرى، و لوجود الكثير من انواع التشكيلات التي تتحرك بغطاءات يصعب حصرها . . لايستبعد قسم محاولات بيوتات صناعية و مالية تركية و عالمية كبرى، توظيف هذا الحراك الشعبي للضغط على اردوغان لتغيير سياسته من اجل الابتعاد عن التدخل في شؤون دول المنطقة باكثر من المطلوب لضمان استقرارها، و الابتعاد عن اذكاء فكرة الدولة العثمانية التي يغذيّها الجناح الديني القومي في حزبه ذاته، و التي تسببت بتفجيرات ريحانلي الأرهابية مؤخراً و سقوط العشرات ضحايا لها . . اضافة الى نشاط جهات ارعبها تقارب اردوغان مع حكومة اقليم كوردستان العراق، و تصاعد الجهود لإيجاد حلول سلمية لحل القضية الكوردية في تركيا . .
و على ذلك فإن مسيرة اردوغان في سعيه لتحقيق اهداف متناقضة ليحقق بها السلطة المطلقة لنفسه، تجعل من مطالب الحراك الشعبي الكبير تتقاطع باقسام كبيرة منها مع توجهاته السياسية الداخلية و الخارجية، اضافة الى زيادة وضوح توجهات اردوغان الفكرية امام اوساط شعبية متزايدة التي اخذت ترفضها، و تدفع العديد من المحتجين إلى استحضار قيم الليبرالية ومؤسس الجمهورية التركية العلمانية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.
و يرى مراقبون انه فيما أصبحت تركيا في السنوات الأخيرة لاعبًا دبلوماسيًا واقتصاديًا قويًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن كثير من شباب انتفاضات الربيع العربي كان ينظر الى تركيا اردوغان بكونها نصيرة للديمقراطية و التمدن، و وصل الامر الى ان تجمعات شبابية هناك اعتقدت بأن حزب العدالة والتنمية التركي مصدر إلهام لها كما عبّر عدد من نشطائهم . الاّ انهم تفاجأوا بالرد على الاحتجاجات السلمية للشباب التركي، بالرصاص و خراطيم المياه و الغازات، و بالضرب القاسي الذي شارك فيه اعضاء من حزبه واسقطوا آلافاً من الشباب و الشابات جرحى جروحاً بليغة، ثم بحملات ملاحقات بوليسية، وبغطرسة و ازدراء رئيس الحزب للجماهير المحتجة و وصفه ايّاها بأنهم "حفنة مخرّبين " و انهم " رعاع ان جمعوا مئة الف فسأجمع مليوناً " ، و يرون بأن الاشتباكات في "ميدان تقسيم" نالت كثيراً من شعبية إردوغان بين شعوب المنطقة .
و فيما تتواصل حركة تضامن واسعة في العديد من بلدان العالم و برلماناتها للتضامن مع شباب و شعب تركيا، بمشاركة نشيطة للمواطنين الأتراك المقيمين في هذه البلدان بتكويناتهم القومية والدينية . وأصدرت العديد من شخصيات وقوى التقدم و اليسار في العالم تصريحات ونداءات تضامن مع المدافعين عن قيم السلام والتقدم والحياة المدنية في اكثر من 67 مدينة تركية . . احدى ابرزها دعوة برلمان الاتحاد الاوروبي امس الى مقاضاة اردوغان قانونياً !!
حدث انخفاض حاد في إقبال السيّاح على حجوزات الفنادق التركية داخل و خارج اسطنبول و انقرة . . و تتناقل الصحف العالمية و وكالات الانباء، انباءً عن بدء الوضع الاقتصادي التركي يتأثر سلبًا بما تشهده تركيا من حالة عدم استقرار سياسي على خلفية الاحتجاجات الأخيرة، حيث تشير إلى انخفاض الليرة التركية إلى أدنى مستوى لها منذ بدء التظاهرات الأخيرة في البلاد وانخفاض سوق أسهم اسطنبول بنسبة وصلت إلى 11 %.، وسط تكهنات اوساط مالية دولية بأن ذلك قد يقوّض اكثر من شعبية رئيس الوزراء أردوغان، الذي ارتبطت جماهيريته بالنمو الاقتصادي في عهده، و ان عجزه عن ايجاد حلول سلمية لتلك التظاهرات، سيكون له تأثير سلبي بعيد المدى على الاقتصاد، و تستدرك الى ان بدء تعرض الاقتصاد لضربات قد يجبره على تنازلات امام معارضيه المحتشدين في تقسيم.
و اخيراً تواصل شرطة مكافحة الشغب في تركيا استخدام الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه بلا انقطاع، لطرد المعتصمين ضد الحكومة من ميدان تقسيم، فيما اعلن عن لقاء اردوغان بـ (ممثلين) للمحتجين في حديقة "غازي بارك" التي أطلقت شرارة الأزمة قبل 13 يوماً. لكن "تنسيقية تقسيم"، المنظمة الرئيسة للاحتجاج، وصفت الاجتماع بأنه زائف و لم يُدعَ ايّ ممثل عنها، واصفة الاجتماع بانه لن يعطي نتيجة مع استمرار الشرطة في استخدام العنف، علماً أن ضباطها أنهوا بالقوة حركة اعتصام بارك كوغولو بالعاصمة أنقرة . .
و فيما يعبّر وزيرا خارجية المانيا و فرنسا عن قلقهما من اعمال العنف في "ميدان تقسيم" و يحذران اردوغان من خطورة و مضاعفات اتباعه سياسة احكام الطوارئ في التعامل مع احتجاجات سلمية و نسيانه "لغة الحوار" . . يخضع "ميدان تقسيم" منذ فجر امس لسيطرة أعداد كبيرة من رجال الأمن تحصنوا خلف مدافع مياه على مدخل كل الشوارع المتفرعة. وأزيلت الأعلام واللافتات والحواجز والسيارات المحروقة وعبوات الغاز المسيل للدموع المستخدمة، و يستمر التحشّد الجماهيري فيه . . و يتظاهر أكثر من ألفي محامٍ أمام قصر العدل في إسطنبول، للاحتجاج على احتجاز اكثر من 60 من زملائهم كانوا تظاهروا أول من امس ضد اقتحام الشرطة "ساحة تقسيم". ورددوا هتافات : " تقسيم" في كل مكان !!
و مع حلول بداية خريف الاسلام السياسي بقي تقسيم ـ اسطنبول على بركان مهدد بالانفجار و الاتّساع . . في وقت تحذّر فيه و كالات انباء متنوعة محايدة من احتمال اندلاع مزيد من أعمال العنف، و تتسرّب اخبار الى وكالات الانباء العالمية، عن تصاعد خلافات بين اجنحة حزب اردوغان: المحافظة و الليبرالية و القومية، التي قد تؤدي الى تنازلات متقابلة بينها في سعيها لبقاء حزب العدالة و التنمية في الحكم، وسط انباء تؤكّد على خسارة اردوغان امله في مواصلة الحكم كرئيس للبلاد في دورة قادمة. (انتهى)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. العملية التي تحاول جعل المحكمة العليا و القضاء بيد الحزب الحاكم و ليس الدولة، و قد سارت تحت غطاء تعديل دستور 1982 في زمن حكم الجنرال كنعان افرين، و حددت من صلاحيات الجيش، الاّ انها لم تحقق شيئاً للمواطن في حرية التعبير و حرية المعتقد الديني .
2. وقد رمت الشرطة الغاز المسيل للدموع على منْ داخل مقره و مقر مركز ناظم حكمت الثقافي .
3. رغم التصور السائد عن ابتعاد الشباب عن السياسة . .