المنبرالحر

من مآثر الشيوعيين : قامات تناطح السماء!* / عباس الفياض

ترددت كثيرا قبل الاقدام على كتابة عن مناضلين عشت بينهم سنيناً حلوة بكل ما فيها من مرارات السجن والتعذيب والحرمان وأهدار الكرامات وانتهاك ابسط الحقوق الانسانية. وصفها السجين الشيوعي الأندنوسي»سوكانتو» بأيجاز»حياة الانسان رخيصة مثل فئران المجاري». ففي العديد من الحوادث بتفاصيلها يحتار المرء كيف ينقل الحقائق أو كيف يحل التشابك والتعقيد في القضايا المصيرية التي عاشها العراق حياة السجون وما تحمله الشيوعيون العراقيون من شتى الأنتهاكات والتهميش..
حياة مفعمة بالوطنية والبطولة والتضحية «التي سبقني للحديث عنها بعض المناضلين الذين تقاسمنا ظروف الحياة معاً». أتحدث عن البعض منهم (كريم الشذرمن البصرة كاكه درويش من كركوك، عاصم محمد من الكوت، عبد الله عبيد من البصرة، حنا بطرس من الموصل وجبارناصرمن البصرة1).الأكثرية منهم غيبهم الموت،ولكنهم احياء بيننا وبين محبيهم، والأحياء منهم يواصلون المشوار. كل واحد من هولاء مثله مثل غيره من السجناء، يشكل ظاهرة من ظواهر النضال الشيوعي. لها تقييماتهاالخاصة ولكل منهم مواقف أمام التعذيب الذي مارسه الجلادون. اساليب التعذيب كان البعث قد تفنن بها، بالمقابل آيات من الصمود والتحدي قل مثيلها، وأحياناً يضرب بهم المثل، ولكي لا اطيل عن «الحادثة» كانت شلة من الحرس القومي «كما تسمى» مرسلة الى «نقرة السلمان» قد اؤتي بها من بغداد في ايلول من العام 1963. وانيطتبها مهمة ادارة السجن فوق «الادارة الرسمية» بقيادة الحارس القومي «سليم الزيبق» (يعدهذا من عصابة البعث التي حاولت أغتيال الزعيم الوطني الشهيد عبد الكريم قاسم عند رأس القرية في بغداد،وبرفقته كان صدام حسين وعبد الوهاب الغريري وغيرهم 1959) وذلك لاهمية ونوعية السجناء الموجودين فيه ولشد الخناق اكثر عليهم، وهم من مناضلي»قطار الموت» من بغداد و»قافلة الموت» من البصرة وبقية المناضلين من المحافظات الاخرى، من أساتذة ومدرسين وأطباء ومهندسين وأدباء وشعراء وكتاب ونقاد وفنانين ومن ضباط كبار ومراتب وعمال وفلاحين وطلبة ورياضيين وكسبة وغيرهم، هذا بالاضافة الى الاخوة الاكراد «البارتيين» أنذاك.
كانت المجموعة التي بصحبة «الزيبق أو الزئبق» عديمة الاخلاق، ومن اصحاب السوابق، من القتلة والمجرمين، وهذا ما لوحظ على تصرفاتهم البذيئة وسلوكهم الهمجي حتى فيما بينهم. تعمدت هذه الشلة القذرة منع الرسائل من والى ذوي السجناء، وحرمت السجائر من الدخول الى السجن، وبالتالي حرمت المدخنين من التدخين، وشكلت طوابير أزعاج تطبل ليلاً لتمنع السجناء من النوم، وغلق ابواب الردهات «القواويش» ليلاً ونهاراً، بعد ان كانت مفتوحة قبل مجيئهم . لايسمحون بالخروج لقضاء الحاجات الا مرتين في اليوم ومن يتأخر لحظات او دقيقة تقوم هذه «العصابة» بأستعمال ما في لسانهم من بذاءآت، ومن وسائل أخرى كالركل او الضرب بحجرأو أخامص البنادق والرشاشات. كوسيلة للرعب او محاولة للنيل من كرامة المناضلين وأضعافهم، وجعلهم يهرولون للردهات، ولكن السجناء أبوا ان ينحنوا وقابلوا ذلك بتحد، فقد جربوا ذلك مع البعض ومنهم المناضل الشجاع جوهرصديق شاويس في يوم 15 من تشرين الثاني (الذي كان قد تعرض للتعذيب اللاانساني بما فيه سحله بالدبابة في كركوك وقتها ولم يرضخ) أذ امطروه ضرباً لاجباره على الهرولة. فما كان منه الا ان صرخ بوجوههم بتحد واخذ طريقه للردهة رقم سبعة والدم ظاهرعلى «وجهه ورأسه» حيث كلانا نزيلي ذلك القاووش مع البقية. كرروا هذا العمل مع الشاب الوسيم والجرىء «حنا بطرس» ابن الثمانية اوالتسعة عشرعاماً، ولكنه تخلص منهم بأعجوية اذ بادر بضرب أحدهم وهم داخلاً الى قاووشه رقم ستة، فتبعوه الى داخل الردهة. فما كان من نزلاء القاووش، الا التصدي والوقوف بوجوههم وعدم السماح لهم بأخذ «حنا» وأخفوه عن الانظار،فقام الحرس القومي بفتح النار لزيادة الرعب والتخويف، لانقاذ انفسهم من المشهد الذي وقعوا فيه «حيث تم تطويقهم» وللتخلص من سيل اللكمات والنعل والاحذية التي انهالت عليهم ومن جميع السجناء، وبعد ان شخصوا خمسة من الشيوعيين لاختطافهم خارج الردهة. هم كريم الشذر، كاكه درويش، عاصم محمد، عبد الله عبيد، جبار ناصر وحنا بطرس في خارج القاووش طوق الحرس القومي (بعد ان أوصدوا جميع الأبواب) المناضلين الخمسة وأشبعوهم ضرباً وأصطحبوهم الى الباب الخلفي للسجن الجديد (الذي تدخل منه المواد التموينية والقريب الى مقر الحرس القومي خارج السجن) وهذا «الباب» يبعد بحدود ثمانين متراً عن الردهة السادسة وبحدود عشرة الى خمسة عشر متراً عن قاووش عشرة القريب من المطبخ، ولا يبعد اكثر من خمسة امتار تقريباً عن «المطبخ» حيث كنت انا ومعي ثلاثة من الزملاء لاعداد وجبة الغداء «طبخ المرق» ومعنا أيضاً اربعة لاعداد «الرز» يترأسهم رفيق رائع من أبناء الكاظمية «لايحضرني الأسم» بالاضافة الى وجود الرفيق «حازم» من ابناء الموصل 2، وهو حلقة الوصل بيننا وبين الرفاق في المخزن، وهما»عبد القادرالعيداني والشهيد هندال جادر» حيث «حازم البشوش دائما»3يحضرمستلزمات الطبخ ويشرف على الزملاء الخفر الذين يمثلون القاووش في ذلك اليوم. ليقوموا بتنظيف وتهيئه المواد التي يتولى الطباخون اعدادها في ذلك اليوم. الخفارات دورية على القواويش العشرة بالأضافة الى سجن القلعة. الذي اريد ان اقوله كنا عشرة بالزيادة او النقصان ليست مشكلة.غرفة المطبخ مساحتها تقريباً 6×4 م وفيها كوتان صغيرتان احداهما تطل على المشهد «الحرس والمديروالرفاق الخمسة» بحيث نراهم ولا يروننا. كلفت للأنصات من الفتحة يشاركني أحيانأ حازم او من يريد من قبل المجموعة التي معي في المطبخ، وايصال الاخبار أولا بأول لهم .. المشكلة والمأثرة هو ان الرفاق الخمسة جلبوهم الى الباب الخلفي «كما ذكرت» ووضعوهم الى الحائط وامطروهم ضرباً، وبعد ذلك طلبوا منهم الاعتراف على من ساهم من السجناء بضرب افراد الحرس القومي في القاووش المذكور، ومن اراد ان يجردهم من السلاح، وان يشيروا اين اختفى «حنا»، (كان مدير السجن وبمعيته اثنان من حراس السجن الرسميين، ولكنهم لم يشاركوا حفل التعذيب، لم يكن سليم الزئبق موجوداً) ولما عجز البعثيون امام صمود الشيوعيين. قرروا حلق رووسهم تمهيداً لاعدامهم ووجهوا الرشاشات والبنادق صوب صدور المناضلين، فحلقوا رؤوسهم وطلبوا من الشيوعيين ان يرفعوا الشعر من الارض فأبوا وأمتنعوا عن ذلك، صاح احدهم بكريم الشذر لماذا طأطأت رأسك؟ «كان ابو شاكر على مااعتقد اما وقعت شعرة اوتراب في عينيه فنظفها بيده» اجابه كريم انا لن انحني، فأرتفعت قامات الرفاق جميعا الى السماء.يذكرني هذا المشهد بما قاله الشاعر والمفكر والمناضل الكوبي من جذور اسبانية، شاعر التحرير خوسيه مارتي «لن اموت كما الخونة العابرون المارقون، فأنا انسان صالح وسأموت ناظراً الى الشمس» وللتاريخ أقول: كان دور مدير السجن4»لايحسد في ظل تلك الظروف» فهو حاول ان يقنع الرفاق بلطف بقوله: (اولادي ارفعوها وأحسبوها علي)، ولما لم يستجيبوا وعجز عن اقتاع الرفاق. توجه الى الحرس بقوله تريثوا قليلاً أرجوكم، ولا تعملوها فأنا المسؤول. «كأنه يقول لاترتكبوا هذه الجريمة سأكون أنا المسؤول عنها»،وأمام اصرارالمناضلين وتعنت الحرس القومي قام المدير بتنظيف المكان، ساعده بذلك السجانون الذين معه، وقد تفنن بحجج وتوسلات وكل ما لديه من خبرات، واستطاع ان يتجاوز حماقات الحرس «القومي» بإعادة النظربقرار الرمي بالرصاص. لكن تراجعهم هذا بدلوه بشرط جديد، طلبوا ان يهرول الشيوعيون الى قاووشهم، فهلت أسارير المدير. غير ان الرفاق رفضوا ذلك، وفضلوا السير بهدوء غير هيابين للترويع والتهديد وسط الركل وقذف الحجارة ورمي الرصاص أحياناً في الفضاء (تنفسنا نحن الذين في المطبخ الصعداء).
لقد استطاع هولاء المناضلون ان يهزموا عصابة الحرس القومي بصلابتهم وجرأتهم وصبرهم وأيمانهم بقضاياهم التي هي قضايا الناس. حيث شكلوا فريقاً متضامناً لايهاب الموت وبرهنوا كيف تستطيع الارادة. ان تمرغ انوف الطغاة بالوحل، مهما طال الزمن واشتدت قساوة الأجرام.هكذا هي مآثر الشيوعيين.. طوبى للمناضلين كريم وكاكة درويش وعاصم وعبدالله وجباروحنا..طوبى للشيوعيين في عيدهم الثمانين.
________________
*- دخلت السجن وانا في الرابع الاعدادي. ولم اكمل الثامنة عشرة بعد وكان معي عدد بعمري او اقل ونسبة الطلبة من الثانوية والمعاهد والجامعات كبيرة،وقد اجتمعت قيادة المنظمة بعدد منا وقالت: ان عددأ من السجنا ء الخفيفة احكامهم سينقلون او يطلق سراحهم ونحتاج لمن يحل مكانهم في المطبخ او بغيره ، وقد التحقت بالمطبخ بعد ان تدربت على يد الرفيق «عون» في طبخ المرق، وهو من ابناء العمارة.
1- الرفيق كريم الشذر :هو والد الشهييد «شاكر» الذي صفي هو ومجموعة من كوادر الحزب في البصرة من قبل نظام البعث في الثمانينيات.ولازال الحي من الخمسة الذين ذكرتهم عدا «عاصم» الذي لاأحتفظ بمعلومات دقيقة عنه،ومقترحي ان تقدم اوسمة لهؤلاء الابطال اولعوائلهم بهذه المناسبة.
2- هنالك تفاصيل عن حياة السجن والسجناء الشيوعيين – نقرة السلمان – الحلة وغيرها من السجون قد لامسها البعض ممن كتبوا مشكورين ويثمنون على ما بذلوه من جهد ومسؤولية وهي تعد وثائق «بعد التدقيق» وبقيت تفاصيل اخرى تحتاج منا «الأحياء» الكتابة.
3- مدير السجن أسمه عبد الرحمن على ما اتذكر، فبالاضافة الى موقفه الذي ذكرته بأعتباره المسؤول. فهو بنى علاقات صداقية مع بعض الشيوعيين من الضباط وبعض الشخصيات المعروفة بعد سقوط البعث في تشرين الثاني 1963، وأشركته قيادة المنظمة أحياناً في توزيع الهداياعلى الرياضيين او غيرهم في المناسبات التي تحصل أنذاك، وحافظ على هذه العلاقة بعد خروج الشيوعيين من السجون عام 1968 أذ التقيت به عند معرض الصفاء الفتي في شارع الخلاني - بغداد لصاحبه نزيل سجن نقرة السلمان المناضل حبيب سبهان وشركائه.
4- كانت حالة الرفاق في المطبخ وا لمخزن في غاية التوتر، وكان المشهد يصعب التحكم به، وبرباطة جأش جهزنا مالدينا من ادوات المطبخ والمخزن في ان نهجم على الحرس في حالة التنفيذ وكان الكل مستعد للموت وليحصل ما يحصل.