المنبرالحر

انتفاضة هور الغموكة .... آيار 1968/ علي عبد الكريم حسون

صيف العام 1968 , كالذي سبقه من شهور صيف السنوات الماضية , كان لاهبا حارا محملا بذرات التراب والرمال الدقيقة " السموم " . لم يكن لنا , نحن الشباب الذين تخرجنا من الجامعة حديثا والفرحين بتعيننا الجديد , مدرسين في متوسطات وثانويات المحافظة " اللواء " , الا الجلوس في مقاهي المدينة الناصرية , متمتعين بالعطلة المدرسية الصيفية .
تفاجأنا بثلة أفراد أمن الناصرية المعروفين لنا بوجوههم الكالحة , وهم يتوجهون الينا ... توجسنا شرا فقدومهم لايحمل خيرا , خاصة وأن اخبارا جاءت قبل أيام عن معركة خاضها الشيوعيين في هور الغموكة بقضاء الشطرة , أسقطوا فيها طائرة هليكوبتر .
توجهوا نحو الأستاذ المعلم اليساري عبد الحسين جولان وأقتادوه ... قلقنا عليه دفعنا للأستفسار عن مصيره , بعد سويعات عرفنا أنهم أخذوه الى المستشفى العام في المدينة , وبالتحديد الى المغيسل " غرفة غسل الموتى " , وطلبوا منه أن يصور بكاميرته ثلاث جثث . بعدئذ عرفنا أيضا أنها تعود للشهداء : خالد أحمد زكي ومحسن حواس ومنعثر سوادي . الشهداء الثلاثة هم من أصل اثني عشر مناضلا قادوا ونفذوا الأنتفاضة ( 1 ) .
ماحدث في هور الغموكة
العملية تمت في نهاية آيار 1968 , وبالتحديد يوم الثامن والعشرين منه , أي قبل ستة أسابيع من انقلاب 17 – 30 تموز 1968 الذي شكلّ العودة الثانية للبعث . وحسب مايورده حنا بطاطو في سفره الخالد ( الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار ج3 ) , انهم هاجموا " مخفرا للشرطة في هور الغموكة في قضاء الشطرة من لواء الناصرية وأستولوا على خمسين قطعة من الأسلحة النارية , لكنهم ظلّوا طريقهم في المستنقعات وتخلوا عن زوارقهم في لحظة سهو , وتغلبت عليهم في النهاية قوة تفوقهم عددا من اللواء الخامس عشر المؤلل , أما الحكومة فقالت أن ستة رجال قتلوا وسقطت طائرة هليكوبتر " .
كان قرار المجموعة بعد أن استقروا وسط بردي وقصب هور الغموكة , هو الهجوم على مخافر الشرطة في عمق الهور . أرتدوا زي الشرطة وبرتب متنوعة , تمّ لهم ماأرادوا بالأستيلاء على أسلحة الشرطة جميعا بعد أن جمعوهم داخل غرفة المركز , حيث ألقى عليهم قائد المجموعة الشهيد خالد محاضرة عن أهدافهم , هتف بعدها بأسم الشعب وبسقوط الرجعية .
أنتقلوا بعدها الى الهدف التالي , ربيئة أخرى , حيث حصل فيها ماحصل في الربيئة الأولى , بالأستيلاء على السلاح والعتاد وتجميعهم في غرفة واحدة بعد تعريفهم بمباديء وأهداف الحزب الشيوعي العراقي , والتوضيح لهم بأن الشيوعيين ليسوا بقطاع طرق
في طريق العودة ظّلت المجموعة طريقها , فوصلوا الى هور عوينة الذي لايبعد سوى القليل عن هور الغموكة متوجهين نحو هور الحمار . وفي وسط الطريق وبالقرب من مرقد " فوادة " , تعرضوا لأطلاق نار كثيف من قوة الشرطة الآلية التي كانت تروم قطع طريق العودة عليهم لغرض تطويقهم ومحاصرتهم . بعدها قرروا العودة لمواجهة الشرطة بدلا من الأنسحاب . أثناء ذلك أصيب الرفيق منعثر سوادي بنيران رفيقه حسين ياسين خطأ , والذي كان ضعيف البصر , ظنا منه أنه أحد أفراد الشرطة .
مواقف مشرّفة لفلاحي الهور
واصلت المجموعة مسيرها طوال الليل مغيرين اتجاههم للوصول الى هور الغموكة , وأتفقوا على دخول احدى القرى القريبة للحصول على الطعام . ذهب حسين ياسين لمقايضة بندقية ومسدس بالطعام والماء . المفاجأة كانت أن الرعاة بعد أن عرفوا هوية المجموعة بكونهم شيوعيين , قدموا لهم الخبز والتمر بلا مقابل . كذلك أن شكوكهم كانت غير صحيحة بأحد الفلاحين الذي حياهم من على صهوة جواده دون أن يهتم بأمرهم , فلقد عاد ثانية بصحبة رجل آخر هو خاله حاملين اللبن والطعام والسجائر . كذلك حضر اليهم فلاح آخر مع ابن أخيه حاملين الطعام والسجائر أيضا .
اتفق الجميع على تقديم المساعدة لأيصال الرفاق الى أهوار العمارة , لابل عرضوا عليهم استضافتهم في أحد بيوتاتهم , الأمر الذي رد عليه قائد المجموعة الشهيد خالد بالشكر والأمتنان بعدئذ ذهبوا مع حسين ياسين الذي يبدو أنه كان يجيد التعامل معهم , فهو ابن المنطقة وأهله وزوجته في ناحية الفهود المطلة على هور الحمار . وحسبما يورد الرفيق عقيل حبش في كتابه الموسوم " من أوراق انتفاضة اهوار : شهادة حية من لهيب المعركة " : أنه بعد سنين أوضح له الرفيق علي عويش أبو احسان , بأن حسين ياسين وصل المنطقة فعلا والتقى مع أحد الرفاق " جاسم الكندور " طالبا مساعدته بأرسال مشاحيف ومؤونة للرفاق , الا أن ذلك لم يتم , لخوفه من شيوخ آل نايف وهم شيوخ بني سعد . أرتحل الرفاق بعدها مغادرين المكان مع رفيقهم الجريح منعثر سوادي .
صبي العاشرة من العمر يطّل على المجموعة
أثار هذا الصبي دهشتهم وهو ينزل اليهم بسرعة معاتبا اياهم : " انتم وين وآنه أدّور عليكم وأمي سمعت عنكم جوعانين وزعت الكم هذا الخبز والكيمر وتكول أمي أنتم معزومين عدنه الليله " .
شكره الرفاق وأوصوه بأن يكتم سرهم ولا يخبر أحدا عنهم ... كان رد الصبي رائعا بقوله : كيف أخبر عنكم وآنه أحبكم وأمي تحبكم مثلي .
المجابهة المحتومة
أحاطت سيارات الشرطة بالقرية لتفتيشها , فقررت المجموعة الأنتقال لموضع آخر في مجرى النهر استعدادا للمعركة راصدين تحركات وتجمعات الشرطة والمساندين لهم من أتباع الأقطاعيين . وفي الحادية عشرة والنصف صباحا بدأت المعركة , بعد تطويق كامل من قبل الشرطة مطالبين الرفاق بالأستسلام من خلال مكبرات الصوت , ردّ عليها الرفاق بالهتاف بحياة الحزب والشعب وجبهة الكفاح المسلح وبسقوط الرجعية والصهيونية .
طلبت الشرطة من المجموعة الأستسلام بدون قيد أو شرط , وفي الخامسة والنصف عصرا , وصلت المكان طائرة مروحية مطلقة النار عليهم , ترافق ذلك مع رمي رمانة يدوية على مواضعهم , التقطها الرفيق هادي بنية رميها ثانية على مواضع الشرطة , الا أنها انفجرت بيده فبترتها ... عندئذ تصدى الرفاق للهليكوبتر فأسقطوها وقتلوا طيارها .
ومن خسة المهاجمين أنهم لم يقبلوا استسلام الرفيق هادي الذي بترت يده بأنفجار الرمانة اليدوية , فأمطروه بالرصاص , فعاد مسرعا لمجموعته مصابا بجروح جديدة , خدعوه ثانية بقبول استسلامه فسحلوه الى الخلف ليحققوا معه على الفور وهو جريح .
لم تتمكن الشرطة من اقتحام موضع المجموعة الا بعد أن نفذت ذخيرتهم , فأستشهد منهم ثلاثة هم : خالد أحمد زكي ومحسن حواس ومنعثر سوادي . والأخير كان جريحا في صدره بأطلاق النار عليه خطأ من قبل رفيقه حسين ياسين , والذي قاومهم وهو جريح فأستشهد . كانت حصيلة قتلى المهاجمين هي مقتل النقيب طيار الهليكوبتر وأربعة من رجال الشرطة وجرح خمسة منهم .
وليمة لأعشاب البحر
هي رواية السوري حيدر حيدر , والذي كتبها عندما كان يعمل مدرسا في الجزائر . بنى حبكتها الروائية على معلومات أمدها بها أحد المساهمين في انتفاضة الأهوار،  تداولناها بطبعتها المستنسخة عبر تواجدنا في شارع المتنبي زمن تسعينيات القرن الماضي . زاد من شهرتها أن الأزهر حرمها بطبعتها العاشرة ؟؟. وبعد ذلك عبر الرد المفحم لأحد أبطالها عقيل عبد الكريم حبش ( 2 ) حول ماناله من تجريح ورد فيها. (3 )
مظفر النواب وأرتباط شعره بالأهوار والفلاحين
كان شاعرا بالفصحى وعازفا على العود وعاشقا للموسيقى . ولد وتربى في المدينة , ولكن عام 1956 , كان عاما فاصلا في حياته , فلقد قدّر لسفرة قام بها الى أهوار العمارة بدعوة من صديق , أن يستمع لأول مرة في سهرة على نهر الكحلاء , لمغني الهور المشهور " كرير " ولآخرين : جويسم وسيد فالح , والذي شبه صوت أولهم بصوت المغني الأمريكي اليساري المشهور بول روبنسن .
بعد ذلك وتحديدا فترة 1968 – 1969 , تنقل مظفر بين منطقة وأخرى في الأهوار . وهي الفترة ذاتها التي شهدت حراكا مسلحا للشيوعيين في أهوار الغموكة في قضاء الشطرة , وأهوار قضاء الجبايش , وهور أبو زرك في ناحية الأصلاح . وقبلها كان لقصيدة " صويحب من يموت المنجل يداعي " أثرها المدوي , ردا على مقتل صاحب ملا خصاف , المتمرد على القرار الحكومي عام 1959 القاضي بأرجاع بعض الأقطاعيين الى حيث كانوا قبل الثورة .
بعدها قال النواب في هور الغموكة :
ليل الغموكة حزام
صاح النوب صاح الهور كل الهور
صاح وياه ياهور الغموكة وكام
الهوامش
1 – المساهمون الأثني عشر هم كل من : خالد أحمد زكي ( جبار ) محسن حواس ( شلش ) منعثر سوادي ( كاظم ) عقيل عبد الكريم حبش ( أبو فلاح ) حسين ياسين ( أبو علي ) عبد الجبار علي جبر ( هادي ) عبد الأمير عبد الواحد يونس الركابي ( لفته ) عبد الله شهواز زنكنه ومحمد حسين الساعدي وعبود خلاطي وعلي ابوجي وحمود ( صالح ) .
2 – عقيل عبد الكريم حبش , الفار من سجن الحلة عبر النفق المشهور وصاحب كتاب شهادة من لهيب المعركة والذي لايزال حيا ويعيش في مدينته الناصرية كما عرفناه عاملا حدادا مخلصا لحزبه وطبقته .
3 – الطريف بالأمر أن تحريم الأزهر للرواية تم بعد الطبعة العاشرة لها , وتم الأستناد على التحريم هذا بأستحصال فتوى مجهولة تنص على أهدار دم الروائي حيدر حيدر , الذي لجأ لمدينته في طرسوس بسوريا تخلصا من تنفيذ الفتوى .