المنبرالحر

أوكرانيا حصان طروادة المسكين/ احمد عواد الخزاعي

اعتادت اميركا صناعة الازمات كجزء من استراتيجيتها في قيادة العالم بعد انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991 ..مما توفر لها هذه السياسة مساحة اكبر للتحرك والمناورة اتجاه القضايا العالمية المهمة التي تمس امنها القومي ومصالحها الاقتصادية، وكان للازمة السورية التي اعد لها في اقبية المخابرات الغربية ان تعيد الى الاذهان حمى الحرب الباردة بين امريكا من جهة روسيا الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي السابق من جهة اخرى.
فمنذ نشوء هذه الازمة في 2011 وفشل المعارضة المتطرفة والمدعومة من الغرب وبعض دول الاقليم بالإطاحة بنظام الحكم هناك سعت هذه الدول الى تحويل دفة الصراع وترجيح كفته لصالحها بشتى الوسائل والطرق ومنها استهداف الدول الداعمة للحكومة السورية والتي تعتبر من اهم اسباب صمودها طيلة الفترة الماضية ومن بينها روسيا التي دخلت الى الازمة السورية بكل ثقلها السياسي ودعمها اللوجستي مما جعلها هدفا لمؤامرة غربية كبيرة وسيناريوهات بالغة في التعقيد الهدف منها جرها الى مستنقع عسكري وسياسي كان مخططا لها ان تخرج بصعوبة بالغة منه عن طريق استدراجها الى ازمات ومشاكل داخلية ومحاولة استنزافها بإثارة ازمات في الجانب الاخر من العالم مما يضطرها الى ترك الساحة السورية ومصالحها في المنطقة للانشغال بها..فوقع الاختيار على اوكرانيا ذلك البلد المهم الذي يقع وسط اوربا الشرقية وثاني اكبر دولها بعد شقيقتها الكبرى روسيا والتي انفصلت عنها بعد توأمة سيامية دامت من 1923 ولغاية اعلان البرلمان الاوكراني الانفصال عن الاتحاد السوفيتي عام 1991 ..لتصبح عضوا في رابطة الدول المستقلة في نفس العام .
فبعد فشل الدول المتحالفة لإسقاط النظام السوري على مدى ثلاثة اعوام والاحباط الذي شعرت به من عدم قدرتها على استمالة روسيا لصلحها عن طريق الاغراءات المادية السخية التي عرضتها بعض دول الخليج عليها والزيارات المكوكية لمسؤوليها بغية التأثير عليها وتغيير سياستها من الازمة هناك لجأت الى اختلاق ازمة في اكثر دول العالم اهمية بالنسبة لها، ففي تشرين الثاني 2013 خرجت مظاهرات ملأت شوارع العاصمة كييف مطالبة بإسقاط ورحيل الرئيس فكتور يانوكوفيتش الحليف الروسي القوي والقادم من الشرق الاوكراني ذي الاغلبية الروسية بسبب رفضه اتفاقية تؤمن المزيد من التقارب الاقتصادي مع اوربا على حساب علاقته الاستراتيجية مع الروس ..ليبدأ ربيع اوكراني على غرار الربيع العربي القاعدي ..وتلقي امريكا والغرب كرة الثلج المتدحرجة في هذا البلد الجميل ذي (46) مليون نسمة والذي يعاني (ازمة الهوية) وتفتح بوابة الجحيم للصراعات الاثنية والقومية والثقافية والاقتصادية النائمة في رحمه منذ عام 1991، حيث يحتوي هذا البلد على سبعة وسبعين بالمئة من الأوكرانيين والباقي خليط من الروس والتتر والرومانيين .
وبسقوط الرئيس فكتور يانوكوفيتش سارعت روسيا الى حماية مصالحها الاستراتيجية هناك وخاصة في شبه جزيرة القرم الواقعة الى الجنوب من اوكرانيا والمطلة على البحر الاسود حيث مقر الاسطول الروسي والتي تضم خليطا من القوميات والإثنيات من الروس والتتر والاوكرانيين بعد ان طالب الجزء الاكبر من سكانها بالانضمام الى روسيا، وقام البعض منهم بالسيطرة على المنشآت الحيوية فيها فأنزلت قواتها في شبه جزيرة بعد ان طلب الرئيس بوتين في الاول من اذار التفويض من مجلس الاتحاد لإرسال قواته هناك، وتمت السيطرة عليها دون ان تحرك اوكرانيا ساكنا ..على الرغم من ان شبه جزيرة القرم قد تمتعت بحكم ذاتي منذ عام 1954، وقد حاولت روسيا ضمها اليها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 الا انها تركتها ضمن النطاق الاوكراني باتفاقية تأجير .. ليتواجد فيها مقر الاسطول الروسي الوحيد في المياه الدافئة في العالم.
وبتسارع دراماتيكي للأحداث اجري استفتاء في شبه الجزيرة في 16 اذار 2014 ليقرر اهلها الانضمام الطوعي للاتحاد الروسي بنسبة (95) بالمئة وبذلك امنت روسيا مستقبل اسطولها البحري القادر للوصول الى مياه البحر المتوسط حيث يوجد جزء من قطعات هذا الاسطول في ميناء طرطوس السوري كجزء من صراع الارادات ومد النفوذ للدولة الكبرى، والتي سعت الدول الواضعة لهذا المخطط الى حرمان روسيا من الوجود فيه اذا ما خسرت شبه جزيرة القرم. وخسرت اوكرانيا اولى جولاتها وانكفأت على نفسها على الرغم من امتلاكها ثاني اكبر جيش في اوربا بعد الجيش الروسي والذي قوامه سبعمائة وثمانون الف مقاتل ..علما انها كانت تمتلك ثالث اكبر ترسانة نووية في العالم بعد امريكا وروسيا وتخلت عنها لصالح الروس عام 1992 ومن ثم انضمت الى معاهدة تخفيض الاسلحة النووية (ستارت)..عام 1994.
وكانت لردة الفعل الروسية السريعة والحازمة في شبه جزيرة القرم الأثر الاكبر في ان يعيد العالم حساباته من جديد والاستعداد لمرحلة جديدة من النظام الدولي يكون فيه لروسيا الدور الفاعل والمؤثر في سير الاحداث في العالم مما يعيد الى الاذهان فترة الحرب الباردة ..كما اشار ديمون ولسون رئيس مجموعة الابحاث في حلف شمال الاطلسي بقوله ..(ان السياسة الخارجية الروسية الحالية تقوم على اساس استعادة بعض نفوذ وهيبة الروس في العالم من جديد).
وللأهمية السياسية والاقتصادية البالغة لأوكرانيا بالنسبة للروس وخصوصا بالنسبة للرئيس فلاديمير بوتين الذي سماها (الاخت الشقيقة لروسيا ) والسعي لبناء وحدة اقتصادية وسياسية وعسكرية معها تشكل محورا مهما ومنافسا لأمريكا والغرب والصين في العالم، ولتنامي المخاوف الروسية اتجاه انضمام اوكرانيا الى الاتحاد الاوربي وبذلك خسارتها لجناحها الشرقي من اوربا بعد اعلان رئيسها بالوكالة الكسندر تورتشينوف الموالي للغرب نيتها الانضمام الى الاتحاد الاوربي بقوله ..(ان الاندماج الاوربي يشكل اولوية لأوكرانيا وعلى روسيا احترام الخيار الاوربي لأوكرانيا )..نتيجة لهذه التصريحات وهذه المخاوف فقد سعت روسيا الى تجزئة اوكرانيا واضعافها قبل ان تخطو اي خطوة باتجاه الاتحاد الاوربي فشجعت الاقليات الروسية المتواجدة فيها والمتمركزة في الشرق الاوكراني على تشكيل لجان شعبية وميليشيات مدعومة من قبلها للمطالبة بالانضمام الى روسيا وقد نجحت الانفصاليون في اخضاع ( 12) مدينة في الشرق الاوكراني تحت سيطرتهم ..وقد فشلت جميع المحاولات الاوكرانية في استعادة السيطرة على تلك المناطق معلنة خسارتها للجولة الثانية من هذه المعركة التي زجت فيها دون ارادتها وكانت فيها الخاسر الاكبر بعد ان اكتفت امريكا والاتحاد الاوربي بالتنديد وتهديد روسيا بفرض عقوبات اقتصادية عليها كان آخرها تهديد امريكا بطردها من مجموعة الدول الثمان والتي قابلته روسيا بكثير من المبالاة .. ان اوكرانيا التي ارادتها اميركا والغرب حصان طروادة الذي يوقع الروس في فخ الازمات الداخلية مما يساهم في اضعاف دورهم في النظام الدولي الجديد ..اصبحت حصان طروادة المسكين الذي ستنخره الحروب الاهلية والصراعات الدولية التي جعل ساحة لها وسوف يجزئه الروس حتى يطل في المستقبل القريب على اوربا الغنية الحرة وهو منهك يعاني التشرذم والازمات ليكون عبأ عليها.