المنبرالحر

لا خيار غير الوطن/ فرات المحسن

يتحدث الشاعر العظيم بابلو نيرودا عن حضوره نهاية العشرينات من القرن الماضي مؤتمرا لعموم الهند أفتتحه المهاتما غاندي فيصف الشاعر نيرودا نموذج المناضل غاندي، وجه ناعم لثعلب ذكي جدا ورجل عملي ومعلم ماهر وعالم خبير بالتكتيكات والمراوغة، وكانت الجماهير عند حضوره مثل تيار جارف لا ينتهي، تلمس بشكل طقوسي ديني، طرف بردته البيضاء وتصرخ باسمه. أما عن الشاب جواهر لال نهرو فيصفه بالأستاذ الذكي للثورة الهندية.
ولكن ما أثار فضول ودهشة وإعجاب الشاعر بابلو نيرودا هو ( سوبحاس شاندرا بوسه ــ Subhas Chandre Bose ) الذي حضر المؤتمر أيضا فيقول عنه نيرودا، بأنه العنيف المندفع، عدو الامبريالية، الشخصية السياسية الساحرة لأبناء وطنه.
كان العنيف المندفع سوبحاس شاندرا قد أنظم في حرب عام 1914 إلى اليابانيين الذين غزو بلاده ، من أجل مقاومة الإمبراطورية البريطانية التي غزت الهند أيضا،وقد حكي أحد رفاقه للشاعر نيرودا كيف أعتقل سوبحاس شاندرا من قبل الانكليز وحوكم وأدين بالموت من قبل المحاكم البريطانية، حيث عد مجرما كونه أقترف الخيانة العظمى، ولكن بعد معركة قانونية توصل محاميه جواهر لال نهرو إلى الحصول على العفو عنه وعندها استحال شاندرا إلى بطل شعبي.
أثناء محاكمته قال سوبحاس شاندرا بوسه بانه وجماعته كانوا يوجهون بنادقهم إلى المحتل الياباني المحاصر وقتذاك، ولكنه بدأ بالتساؤل لماذا، ونحن عند احتمالين؟ فأمرنا جنودنا إلى الوراء در، وصوبنا بنادقنا ضد القوات البريطانية الغازية.. القضية بالنسبة لنا كانت واضحة. كان اليابانيون غزاة عابرين ، بينما الانجليز كانوا قد قدموا ليكونوا غزاة خالدين .
مثل هذا التفكير الحاد الذكي الوطني دائما ما يرافق مفاصل مهمة في حياة الشعوب، ونجد له الأثر الفاعل في مفارق دروب النضال الدائم للشعوب الساعية نحو حرياتها وكرامتها حين تقف عند خط فاصل بين ما هو خاطئ وما هو صحيح، بين خيار الوطن المعافى ومصلحة الشعب وإنسانيته وكرامته وفي مواجهة احتمال ضياع الوطن ووضعه في قلب العاصفة ودفع أبنائه لموت عشوائي.
مثل تلك الخيارات تحتاج ليس فقط لصبر وأناة وحكمة بقدر ما تحتاج لأناس بواسل يترفعون عن الصغائر ويضعون حياة شعوبهم في كفة الميزان العليا بعيدا عن المزايدات الرخيصة والعواطف المنفلتة. أناس يدركون قيمة الحياة بكافة تجلياتها. قيمة الوطن الذي يتسامى بجراحه لأجل أبنائه. الوطن يحتاج أناس يتلمسون وجع شعبهم . يختبرون في جروح وأنين الشوارع والبيوت والحارات المنكوبة وطنيتهم وضمائرهم، عندها يتوقفون ليبصروا طريق الحقيقة الذي يدلهم على وجع وطن بسعة الرعب الذي يحيق به ولكنه يبقى أكبر من الجميع حتى وهو يعرض للعالم بمهابة أوجاعه.