المنبرالحر

حكومة الوكلاء اللاحزبية/ د. فـلاح إسـماعـيل حـاجم

مما لا شك فيه أن موضوعة تشكيل الحكومة ونوعها، أثارت وما تزال تثير، ليس فقط اهتمام الحقوقيين والمتخصصين في مجال القانون الدستوري، بل أنها تشكل واحدة من مسائل النقاش المحتدم في أوساط واسعة من المواطنين. ويكتسب نوع الحكومة وكيفية تشكيلها أهمية استثنائية في ظروف العراق الراهنة، حيث يهدد الإرهاب الدولي، ليس فقط مستقبل العملية السياسية الجارية في البلاد، بل ومستقبل الدولة ووحدة أراضيها أيضا. ولا أعتقد أن هنالك ثمة شك في أهمية الدور الذي يقوم به الجهاز التنفيذي للدولة، وخصوصا في الحالة الاستثنائية التي يعيشها بلدنا في الوقت الراهن.
من هنا تكون دراسة الموروث الإنساني وتجارب الشعوب الأخرى في مجال أساليب تشكيل الحكومة، ونوع تلك الحكومة، أمرا بالغ الأهمية. ومن هنا أيضا تبرز أهمية البحث عن المشتركات بين المكونات الأساسية للشعب العراقي وإيجاد الصيغة الملائمة لتعزيز تلك المشتركات. وربما كانت الحكومة اللاحزبية واحدا من الخيارات المناسبة، على الأقل كأجراء مؤقت، لغاية انجاز شروط الحالة الطارئة.
واحد من أنواع الحكومة غير الحزبية هي حكومة الوكلاء - الموظفين، تلك الحكومة التي تشكل في أوقات الأزمات، على اختلاف أنواعها. وتسمى في بعض الأحيان الحكومة الانتقالية، وحكومة الخدمات، وحكومة الموظفين. وفي بعض البلدان تسمى الحكومة العمالية، لكن التسمية الأكثر انتشارا هي حكومة الموظفين.
والحكومة اللاحزبية عادة ما تشكل عندما لا تتمكن الكتل الحزبية من الاتفاق بعد الانتخابات، وليس هنالك من إمكانية لتأليف تحالف، حينذاك يقوم الوكلاء الدائمون بدور الوزراء. ففي بعض البلدان تضم الحكومة وكلاء وزراء دائمين، لا يمكن تغييرهم بتغير رئاسة الحكومة والوزراء.
ولابد من التأكيد هنا بأن واحدا من شروط تبوء هؤلاء المتخصصين لوظائفهم هو عدم الانتماء لأي من الأحزاب السياسية، إذ تكمن مهمتهم الأساسية، مثلما أفراد القوات المسلحة وقوى الأمن، في تأمين استمرارية السلطة وتقاليدها. ومجموعة الموظفين (الوكلاء) هذه هي بالذات من تؤلف الحكومة في مراحل الأزمات. لكن ينبغي القول هنا أن مثل هكذا حكومات لا يمكنها اتخاذ قرارات مصيرية ومهمة، بل أنها تقوم بتمشية الأمور اليومية للبلاد. وقد عرف التأريخ السياسي للدول الاسكندينافية مثل هذه الحكومات ( فنلندا والنرويج مثالا). وفي هولندا أدارت حكومة الوكلاء البلاد لمدة ستة أشهر في العام 1977، حينما لم تتمكن الأحزاب السياسية والكيانات الفائزة في الانتخابات البرلمانية من الاتفاق على تشكيل الحكومة.
وبالإضافة إلى البلدان المذكورة أعلاه وجدت حكومة الوكلاء، أو الحكومة الخدمية مكانها في السنوات الأخيرة في بلدان أخرى، لم ينتج تشريعها الانتخابي تكتلا متماسكا، بإمكانه تشكيل حكومة في الحدود الزمنية المقررة دستوريا، مثل البرتغال وايطاليا والمغرب. حتى أن بعض الدساتير تضمن إشارات إلى إمكانية تشكيل حكومة الخدمة. فالدستور البلغاري لعام1991، على سبيل المثال، تضمن مادة تنظر في تشكيل مثل هكذا حكومة، في حال عدم التوصل إلى اتفاق بين الكتل البرلمانية حول تشكيل حكومة تحالف (المادة 99- خامسا).
ونحن بصدد الحديث عن الحكومة غير الحزبية، ومن ضمنها حكومة الوكلاء - الموظفين، أجد مناسبا الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى كون مثل هكذا حكومات تشكل في الظروف الطارئة وإثناء الأزمات البرلمانية، فان الحكومات اللاحزبية عادة ما تكون من المميزات الأساسية لبلدان الملكيات المطلقة، المتبقية حاليا في بلدان الشرق الأوسط، وخصوصا أمارة قطر والمملكة العربية السعودية، وسلطنة عمان والبحرين اللتين تحاولان، وإن بخطوات خجولة، الانتقال إلى الملكية شبه البرلمانية، وكذلك الأمارات العربية المتحدة، التي تتميز ببعض الخصوصية الناتجة عن تأثير شكل الدولة الاتحادي على شكل الحكم فيها، حيث انتخاب رئيس الدولة ونائبه يتم، استنادا إلى المادة (51) من دستور الأمارات العربية المتحدة لعام 1971، بأغلبية أعضاء مجلس الإتحاد. ومع أن التشريع في دولة الأمارات لم يحدد نظام انتخاب رئيس الدولة، إلا أن العادة جرت على انتخابه عن طريق الاقتراع السري، شريطة اشتراك ممثلي أمارتي أبو ظبي ودبي في عملية الاختيار.
ومن الأنواع الأخرى للحكومة اللاحزبية ذلك النوع الذي يشكل في ظل الأنظمة الشمولية والدكتاتورية، وفي إعقاب الانقلابات العسكرية، عندما يتم الحظر على أنشطة جميع الأحزاب السياسية، فيما يتم تشكيل الحكومة بالاعتماد على القادة العسكريين، أو قادة الحزب وكوادره المتقدمة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في ظل الأنظمة العسكرية، وشبه العسكرية، لا يمكن الحديث عن حكومة الحزب الواحد، الشبيهة بالنموذج البريطاني، ذلك أن الحزب الواحد في ظل الأنظمة الشمولية لا يعدو كونه مجموعة من مناصري حزب السلطة الدكتاتورية. وبذلك لا يمكن اعتباره حزبا بالمقاييس المدنية والديمقراطية المتعارف عليها. وربما مثلت التجربة العراقية أبان حكم البعث البائد مثالا ساطعا على ذلك. فقد مزجت التوتاليتاريا البعثية بين الحكومة كجهاز تنفيذي للدولة وبين الحزب الواحد، جاعلة الأخير بديلا عن السلطة التنفيذية، واتخذت قرارات الحزب وتوجيهاته الداخلية صفة الشمول والإلزام، شانها شأن قرارات أجهزة الدولة الأخرى، وهو الأمر الذي يعتبر من المميزات الملازمة للحكم التوتاليتاري (الشمولي). وتوجت جريمتها تلك باختزال جميع السلطات، وحتى الدولة بالكامل بشخص القائد الضرورة.
لقد فتح إسقاط النظام الدكتاتوري البعثي آفاقا واسعة للانتقال إلى نظام ديمقراطي يؤمن بناء دولة مدنية عصرية، غير أن انتهاج نظام المحاصصة الأثنية أجهز على أي أمل بالإصلاح السياسي، وذلك من خلال القفز على التفعيل الايجابي لمبدأ الفصل بين السلطات، مع كل ما يترتب على ذلك من إبعاد الكوادر المؤهلة (التكنوقراط) وإضعاف، وربما حتى إنهاء، الدور الرقابي لجهاز الدولة التشريعي (البرلمان)، وهو الأمر الذي شهدنا، وما نزال نشهد نتائجه الكارثية على الدولة والمجتمع.
إنني أرى أن الخطر الداهم الذي تواجهه البلاد في الوقت الراهن والمتمثل في التهديد الكبير من قبل تنظيم (داعش) المتحالف مع بقايا البعث البائد، ينبغي أن يشكل حافزا لترصين الجبهة الداخلية وإصلاح العملية السياسية، بالشكل الذي يؤمن انجاز مهمات المرحلة الانتقالية والبدء بعملية بناء دولة الحق والمؤسسات. بالإضافة إلى ذلك فان الانتقال إلى البرلمانية شكلا للحكم، مع وجود التعددية السياسية، وفي ظل التشريع الانتخابي الحالي، سيجعل من الأزمات السياسية أمرا واردا بعد كل معركة انتخابية، الأمر الذي يتطلب تربية كوادر مؤهلة (تكنوقراط) لضمان استمرارية السلطة. وربما كانت حكومة الوكلاء اللاحزبيين واحدا من الحلول لتحقيق ذلك.