المنبرالحر

عبد الكريم قاسم ظاهرة وطنية لم تكتمل فصولها / احمد عواد الخزاعي

بطلبه لشربة ماء من قتلته البعثيين رفضوا اعطائها له كي يفطر بها من صوم يوم رمضاني مرير ومفصلي في حياة فقراء العراق هكذا انتهت حياة الزعيم العراقي الخالد عبد الكريم قاسم، برصاصات قليلة في احد استوديوهات الاذعة والتلفزيون العراقية نهاية لامست خواتيم الاولياء والصالحين والثائرين العظماء ليطوي العراق صفحة مشرقة وخالدة من تاريخه الحديث ..الذي بدء عام 1921 كناتج عرضي لثورة العشرين التي قام بها عرب وسط وجنوب العراق و الذين لم يجنوا من ثمارها سوى نعتهم بالغرباء من قبل مخلفات الدولة العثمانية وبرجوازياتها التي اصبحت صديقة للمستعمرين الجدد اّن ذاك الانكليز ..كقول مزاحم الباججي لأرنولد ويلسون المندوب السامي البريطاني في العراق عند توديعه له بعد فصله من عمله لفشله في مواجهة الثورة ..اخبر الملك جورج الخامس بان الذين حاربوكم في الوسط والجنوب ليسوا عراقيين..وعلى هذا الاساس الاقصائي الشوفيني ، تشكلت اول حكومة عراقية في ظل الاحتلال البريطاني برئاسة عبد الرحمن النقيب عام 1920 ومن ثم اختير فيصل الاول بعد فشل تجربته في سوريا ..ليحل ضيفا وملكا على العراق مكافأة له على الثورة التي شارك فيها هو واهله في الحجاز والشام على الدولة العثمانية عام 1916.. ليظهر على الواجهة السياسية اشبه مايمكن ان نسميه بالديمقراطية الصورية الشكلية الخاصة بالواقع العراقي اّن ذاك ، والذي كان يسوده الفقر والتخلف والحرمان ونهب لثرواته من قبل الدول الاستعمارية وعلى راسها بريطانيا ..وقد تزامن مع تشكيل اول حكومة عراقية تأسيس نواة الجيش العراقي وتشكيل فوج موسى الكاظم بقيادة جعفر العسكري عام 1921 ليبدء دور الجيش في الحياة السياسية العراقية منذ هذه اللحظة ويصبح سلاح ذو حدين ، وكانت اولى تجليات هذا الدور هو انقلاب بكر صدقي عام 1936 على حكومة ياسين الهاشمي ..ومن ثم انقلاب رشيد علي الكيلاني عام 1941 على وصي العرش الامير عبد الاله، وهروب الاخير مع نوري سعيد الى المملكة الاردنية والذي كان انقلابا المانيا يامتياز على المصالح البريطانية في العراق مما دعى الانكليز الى انزال قواتهم في البصرة ، وهرب رشيد علي الكيلاني الى السعودية .. وهذا بدوره اعاد الاحتلال البريطني للعراق مرة اخرى بعد ان نال استقلاله عام 1932 ودخوله لعصبة الامم المتحدة .. وبقيت الاوضاع السياسية في ظل الملكية بين مد وجزر وساحة للتجاذبات والصراعات الفكرية، المتمثلة بكل توجهاتها الوطنية والقومية واليمينية واليسارية والذي كان من ضحايا هذا الصراع عبد المحسن السعدون رئيس وزراء العراق الذي انهى حياته برصاصة في راسه من مسدسه الشخصي عام 1929 ليترك قصاصة لولده علي يخبره فيها انه كان ضحية المطرقة الوطنية المطالبة بالاستقلال وسندان الرفض البريطاني..

وفي خضم هذه الاحداث السياسية المحتدمة كان المواطن العراقي ابعد ما يكون عن فحوى وأهتمام هذه الصراعات فمدن العراق تعاني الفقر والحرمان والجهل وغياب التعليم وعشوائيات اهل الوسط والجنوب تملئ بغداد في الشاكرية والميزرة والوشاش ، هؤلاء البسطاء الهاربين من مدنهم بسبب ظلم وجور الاقطاع ومرارة الجوع والحرمان...وفي احدى غفلات الزمن حيث كان العراقين على موعد مع عهد جديد مجهول المعالم والهوية قام العقيد عبد الكريم قاسم ذلك الضابط العراقي ، هو ومجموعة من الضباط الاحرار بانقلاب عسكري على حكومة احمد مختار بابان عام 1958 ليطيح بالحكم الملكي في العراق ويعلن قيام جمهوريته الخالدة كما أسماها هو ويشعل بعدها شرارة ثورة الفقراء التي انهت العالم الاستعماري القديم واذنابه في العراق ، ويشرق نور صباح جديد على هذا البلد يكون لفقرائه ومهمشيه كلمة الفصل فيه ، وعلى الرغم مما شاب هذه الثورة من اخطاء ككل الثورات في العالم والتي كانت ناتجة من تصرفات شخصية وعفوية من بعض منتسبي الجيش العراقي والمواطنين ، تمثلت بقتل الملك فيصل الثاني والطريقة التي قتل فيها السياسي المخضرم نوري سعيد ..الا ان هذه الثورة تبقى من اهم المنعطفات في تاريخ العراق الحديث والخطوة الصحيحة التي لو توفرت لها الظروف الداخلية والاقليمية والدولية المناسبة لبقائها وديمومتها لأنتقل العراق بما يحتويه من موارد بشرية ومعدنية وزراعية نقلة نوعية جعلته الان في مصافي الدول المتقدمة وذلك نتيجة النهج الوطني الذي سلكه عبد الكريم قاسم ..هذه الوطنية المتجذرة في عراقيتها والتي اعترف بها خصومه قبل محبيه حتى وسموه بالشعوبية ، وبزهده العلوي النبيل الذي صغرت امامه كل مغريات السلطة وبهرجتها ..وقد واجهت الثورة الكثير من التحديات والمؤامرات الدولية والاقليمية الناتجة من المواقف والقرارات التي اصدرها عبد الكريم قاسم مثل قانون استثمار النفط رقم 80 عام 1961 والذي اثار حفيظة بريطانيا وشركاتها الاحتكارية وبموجبه اوقفت عمليات تنقيب واستثمار ابار نفط جديدة في العراق ..وكذلك موقفه من الثورة الجزائرية وتخصيصه لمليوني دينار عراقي لدعمها واتهام جمال عبد الناصر له بتحريض ودعم العميد عبد الكريم النحلاوي والعقيد موفق عصاصة الذان قادة حركة الانفصال في الشطر السوري من الوحدة مع مصر عام 1961 كل هذه الاسباب مجتمعة ادت الى توجه الانظار من قبل تلك الدول وسعيها الى الاطاحة بقاسم، وقد تقاسمت الادوار والسيناريوهات المختلفة والتي اصطبغت بشعارات وتوجهات كثيرة ومتنوعة الاهداف تمثلت بحركة عبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري عام 1959 وبعض الضباط القوميين في الموصل وكركوك والمحاولة الفاشلة لاغتيال عبد الكريم قاسم في بغداد من نفس العام والتي قام بها بعض الاشقياء المأجورين من قبل نظام جمال عبد الناصر والصراع الخفي والمعلن على السلطة من قبل الاحزاب والحركات العاملة في الساحة العراقية اّن ذاك اضافة الى المشكلة الكوردية التي تم اثارتها من جديد في ايلول عام 1961 بعد هدوء دام لاكثر من عقد من الزمن نتيجة فشل وانهيار دولة مهاباد الكوردية في ايران ولجوء مصطفى البرزاني الذي كان وزيرا للدفاع فيها الى الاتحاد السوفيتي ومن ثم عودته بعد الثورة عام 1958..

وكان لهذه الاحداث تداعيات كبيرة وخطيرة اربكت المشهد العراقي والتي انتهت بانقلاب شباط الاسود عام 1963 ..ووثوب البعثين والقوميين على راس السلطة في العراق والقضاء على تجربة لم تكتمل فصولها بعد وكان لها ان تحقق الكثير للعراق والمنطقة لكن الاستكبار العالمي حال دون تحقيق ذلك كما عبر عن عنه القنصل البريطاني في العراق اّن ذاك بقوله لعبد الكريم قاسم (ان رفض العراق الغاء قانون النفط سيضطرنا الى السعي لتغيير الحكومة هنا ..فساله عبد الكريم هل هذا تهديد .. فاجابة القنصل ..لا لكنه الواقع ) ..وبالرغم من قصر عمر الثورة والمخاطر التي واجهتها استطاع عبد الكريم قاسم ان ينجز الكثير للمواطن العراقي بقوله لبعض الحاضرين معه اثناء انقلاب شباط الاسود عام 1963 ..(سيخلد اسمي التاريخ وانني بنيت 35 الف دار لفقراء العراق في عمر الثورة ) ..فهو اول من بنى بيوت لفقراء العراق وخلص فلاحيه ومعدميه من ظلم وسطوة الاقطاع باصداره لقانون الاصلاح الزراعي رقم 30 والذي اعاد بموجبه توزيع الاراضي الزراعية على الفلاحين الفقراء والقضاء على النظام الاقطاعي البغيض ، وكذلك قانون رقم 80 الخاص بالثروة النفطية واستثمارها ، واخراج العراق من حلف بغداد وتحرير العملة الوطنية من الارتباط بالاسترليني .. كل هذه الانجازات وغيرها الكثير قد لجمت اعدائه من ايجاد مثلبه عليه فنعتوه بالدكتاتور والشعوبي متناسين انه اول من دعى الى قيام فيدرالية عربية على غرار التجربة الاميركية وهو اول من دعم الثورة الجزائرية وهو صاحب شعار (عائدون يافلسطين ) وانه اول من سمح للفلسطينين بالدخول للكلية العسكرية في العراق ..

لقد شكل عبد الكريم قاسم ظاهرة فريدة من نوعها في تاريخ العراق منذ الفتح الاسلامي له عام 15 هجريه كونه اول عراقي يحكم العراق ..وبأعتقادي انه كان يعي هذا الامر جيدا فقد اسقط كل المسميات وتجرد من كل الانتمائات غير انتمائه للعراق وأستكثر على نفسه حتى أمتيازاته كحاكم له لاجل فقرائه ولم اجد وصف له أفضل مما قاله بحقه الكاتب البحريني عبد الله المدني ..(كان عفيف اللسان نزيه الكف لم تذكر خطبه المسجلة كلمة شائنة على خصومه ولم تذكر دفاتره انه حقق جاها او مالا لنفسه او لعائلته مات كما يمت غيره من صناع التاريخ وحيدا دونما جاه او قصور او حتى ملابس مدنية ودونما احزاب ومتحزبين ومليشيات بل دونما زوجة او وريث من صلبه ..بل سيذكر التاريخ ان الرجل الذي فجر الثورة واسس الجمهورية وحالف الفقراء ووهب للوطن كل حياته لم يجد في ارض العراق مترين من الارض ليحتضنا جثته المثقوبة بالرصاص ..وفضل رفاق الامس في ظاهرة تكشف قلة الوفاء ان يرموا بالجسد في النهر ليكون طعاما للاسماك حتى لايعود للعراقيون ذات يوم حينما يعود الوعي الغائب او المتغيب قسرا ..الى الترحم على رجل لم يبخل على العراق بشيئ فبخل العراق عليه بكل شيئ حتى القبر)...انها كلمات رائعة تثير الحزن والشجن لزعيم نحن بأمس الحاجة لمثله اليوم لقائد يجعل من عراقيته بوصلته التي يقود بها هذا البلد الجريح الى بر الامان في خضم هذه الفوضى السياسية والامنية التي نعيشها وغياب الرمز ووضوح الهدف وتشتت السبل والولائات لساستنا الجدد الذين اعطاهم العراق كل شيئ وبخلوا عليه بكل شيئ ..العراق اليوم بحاجة الى رجال وقادة كوصف القاص العراقي ذو النون ايوب لعبد الكريم قاسم (حمامة بثياب نسر ومسيح يحمل صليبه على كتفه).