المنبرالحر

إضافةِ "ثقافة" إلى ما لا تُضاف إليه! / حميد الخاقاني

لاستاذنا الراحل (مهدي المخزومي) تعريف منطقي وحاذق لصيغة (الإضافة) في العربية، سمعته منه إبان سنوات الدراسة في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، أو قرأته له في حينها، وظل عالقاً في ذاكرتي إلى يومنا هذا. يذهب هذا التعريف إلى أن الشيئ يضاف إلى شيئ ليرتبطا، ويُصبحا بمنزلة شيئ واحد، فيكتسب ( أي المضاف) من الثاني (المُضاف إليه) ماله من صفاتٍ وخصائص، كالتعريف والتخصيص. فترانا نقول مثلاً (بابُ الدار) و(خاتمُ ذهَبٍ)، وكذلك (أحاديث الليل) و(ديوانُ امرئ القيس)، أو نقرأ (تبَّتْ يدا أبي لهَب)، على سبيل الدعاء ليَدَيْ (أبي لَهبٍ) هذا بالتَباب، أي الانقطاع والهلاك والخُسران.
وعلى أن هذه الصفات والخصائص ذات طبيعية نحوية، إلا أنها تأتي معها بدلالاتٍ ومعانٍ تولَّدَتْ عبر صيغِ الإضافة هذه. ففي بعضها يُصبحُ المضاف إليه جنساً للمضاف، يمنحه صفاتِه، كما في (خاتم ذهبٍ)، أو يكون ظرفاً له، وإطاراً (أحاديث الليل)، أو تعبيراً عن مِلكِيَّة الثاني للأول (ديوان امرئ القيس) و(. . يدا أبي لهَب).

وإذا كانت اللغة، في الأدب خاصة، ومنه أدب الأديان ونصوصها، ذات نظام دلالي، اشتغلت على كشف علاقاته وأشاراته، وما تزال، مدارس نقدية ولغوية وفلسفية، وحتى صوفية مختلفة، فإن البحث في توليد المفاهيم ودلالاتها ومعانيها عبر صيغة الإضافة أو سواها، ينبغي أن يتحقق، كما هو الحال في استكناه دلالات النصوص عموماً، من خلال حقلين اثنين: السياق الاجتماعي ـ الثقافي والتاريخي الذي نشأت فيه، وكذلك دلالتها داخل صيغة النص نفسه.

في سنوات ما بعد 2003، خاصةً، درج كتاب و"كتبةٌ" كثيرون، عندنا وبإفراطٍ، على إضافة تعبير "ثقافة" إلى كلّ ما يعِنُّ لهم من مضاف إليه، حتى أصبح الأمر شائعاً ومُملاً، أشبه بموضات تسريح الشعر، وإطلاق اللحى، وغيرها مما تحفل به أيام هذا الزمان من موضات!
فما يكاد أحدنا ينطق، مرة، بتركيب صاغه هو، أو عثر عليه في لغة أجنبية فاستعاره وأطلقه بصيغة ما، كأنْ تكون "ثقافة الحوار" مثلاً، حتى يتلقفه الآخرون، من ساسة ووعاظ (في السياسة غالباً، حتى وهم يعظون في الدين!)، وغير القليل ممن يدور في فلك أهل الحكم وساسته المتنفذين، من اعلاميين ومحللين سياسيين، وخبراء في شؤون الأمن والعسكر والقانون والأديان، من يفقه منهم ومن لا يفقه (لدينا اليوم في العراق أطنان من هؤلاء، لا نفعَ في الكثيرمنهم، ولا جدوى)، فيأخذ كلٌّ واحد منهم في النسج على منواله ما لذَّ له وطاب من صياغات واقتباسات مكرَّرَة، دون التفكير فيما اقتبسَهُ أو صاغه، ودون معرفةِ معناه. ولم يتخلف عنهم، في تداول هذا النسج ـ الرَدْح، واستعارةِ هذا القادم من خارج (ديار الاسلام)، حتى أولئك الخائفون على "ثقافة الأمة" من "دنَس" الآخر، الذائدون عن "نقاوتها" من كل ما هو دخيل عليها، خاصة إذا كان هذا الدخيل "المتسَلّل" للغتنا وعقولنا آتياً من "غرب" العالم!

وهكذا غدتِ "ثقافة"، شأن الكثير من المتناقضات عندنا، تتضايف مع ما ليس منها، في الحقيقة، وتُنسَب إليه. فصرنا نقولُ "ثقافة التخلّف" و"ثقافة التعصب" و"ثقافة الإرهاب والقتل"، و"ثقافة تكميم الأفواه" و"ثقافة الرعب" و"ثقافة الجهل والتجهيل" و"ثقافة النهب"، و"ثقافة الخداع والكذب" و"ثقافة الفساد والتزوير"، و"ثقافة الإكراه والإلحاق"، و"ثقافة الإقصاء والتهميش"، وأمثالُ هذه الإضافاتِ كثيرة.

ولو تأمَّلْنا في صيغ الإضافة هذه لوَجدنا أنَّ طرَفَي الإضافة فيها مُتَضادَّيْن، مُتناقضَيْن بشكلٍ صارخ. لكننا ننطق، رغم هذا، بمثل هذه التراكيب المتناقضة، أو نكتبها مبتهجين، وكأن الواحد منا قد فتح بلاد السند والهند والصين وحده، وعاد منها بغنائم وأسلاب لا يحُدُّها نوعٌ، ولا يسعُها مكان، ولم يأتِ بمثلها حتى أسلافُنا من الغزاة الأوائل!

نقوم بهذا دون أن ندرك، لجهلٍ فينا، ذلك التغايرَ العميقَ، ثقافياً ومعنوياً، بين المضاف والمضاف إليه في هذه الأمثلة وما شابهها. هذا التغايرُ يشير إلى أن طرفيّ الإضافة هذه ضدان لا يمكن جمعهما، إذ لا يجوز، عقلاً ومنطقاً وحتى ذوقاً، أن نجعل هذه المقابح والمثالب والجرائم (وهي المضاف إليه هنا)، بمنزلة الشيئ الواحد من المُضاف، وهو هنا مفهوم (ثقافة). فهل تجوزُ، مثلاً، مُضايفةُ مفهوم "ثقافة"، بما يكتنزه من معاني المعرفة والتمدن والتمدين، والارتقاء بالعقل والفكر والحياة، والتمدن، مع مفهوم "التخلّف"؟
إنها إضافةٌ تجمعُ نقيضَيْن لا يجتمعان.
ثم أليس من المؤسي أن ننحتَ، مثلما يفعل كثيرون منا، تعبيراً مثل "ثقافة الحرب" ولا نلتفت للتناقض الصارخ بين طرفيه!؟
متى كان القتل والخراب ثقافة، أو كانا على شيئ منها، حتى صرنا ننسبها لهما، ونجعل من النقيضِ ونقيضِه شيئاً واحداً!؟

ولكنَّ مصيبتَنا أننا قوم تجتمع الأضداد فينا، فيصيبَنا اجتماعُها هذا بفصامٍ نُنكره أو لا نعيه. فنرى الواحدَ منا يلهجُ، على سبيل المثال، بالحديث عن " ثقافة الديمقراطية" ليلَ نهارَ، وروح المستبد كامنة فيه، تمُدُّ له لسانَها ساخرةً مما يقول، وهو يغمزُ لها بأطراف العين والحاجب من خلف عُويناته، والإثنان: روح المستبد وصاحبُها يضحكان من جهلنا وسذاجتنا، إذ اعتدنا أن نأخذَ ما يُرْمى لنا دون تقليب وجوهه ونقدها والتأمل فيها. باستثناء القليلين منا لا أحد يتساءل: هل ديمقراطيةُ هذا، وأمثالُه، ثقافةٌ حقاً، تنطوي على موقفٍ تطويري ونقدي للحياة والتاريخ وظواهرهما المختلفة في السياسة والفكر والاجتماع والاقتصاد ونُظُم التعليم وغيرها، أم أنها ديكور لفظيّ، وآلياتٌ شكلانية في مسرحية هزلية بائسة، تؤسس، في النهاية، لنظامٍ استبدادي قوامُهُ التبعيةُ والطاعة، ولكن بقناع "ديمقراطي"، هو والناخبُ فيه منخوبان!

ويظهرُ الآخر من هؤلاء، على "مسرح" السياسة والمجتمع، عارضاً نفسَه بوصفه حامياً لِـ "ثقافة الحريات"، أميناً عليها، لكنه يقوم، باسم العقائد تارةً، وباسم التقاليد تارة، بكلِّ ما يؤدي إلى التضييق عليها وقضمها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فما دامَ قد اختارَ هو لنفسه "عبوديةَ التقاليد وتقديسَها" أو ورِثَهما عن آبائه، وجبَ على المجتمع أن يمضيَ معه "ديمقراطياً!" إلى هذه العبودية، ويرى مثله أنها "النموذج المثال في الديمقراطية والحريات!". من لا يخضع مثلَه لعبودية هذه التقاليد راضياً مَرضِيّاً، فليس له غيرُ آفاق العيش الضيقة في وطنه!
هل يمكن لمجتمع "عبوديات طائفية، وقبلية وإثنيةٍ، وأيديولوجية" أن يكون مجتمعاً ديمقراطياً حقاً، يُنتِجُ ناخبين أحراراً ونواباً أحراراً، و"قادةً" سياسيين أحراراً؟ قلَّـةٌ نادرةٌ فقط هي مَنْ تَفلِتُ بوعيها وفكرها الحُرّ من أسْر هذه العبوديات، مُدركةً أنْ ليسَ هناك ما يجمع بين "تقديسِ هذه العبوديات" و"ثقافةِ الديمقراطية والحريات" أبداً. هذه القلّةُ النادرة غالباً ما تعيش غريبةً في وطنها، وبين أهلها.

ليس من المعقول إذَنْ أن ننسِبَ لفظَ "ثقافة" إلى علاقات التبعية والعبودية هذه، فنأتيَ بصياغةٍ مثل "ثقافة العبودية"، أو نجعلَ من أحد طرفي الإضافة هذه صفةً، أو نَعتاً، للآخر فنقول: "العبودية الثقافية" أو "الثقافة العبودية"، فالعبودية، شأن التبعية، ليستْ ثقافةً على الإطلاق.

ثمّ أننا نرى بعضَهم يعظنا، مثلاً، بِـ"ثقافةِ مساواة المرأة" وحقها في التحرر والانطلاق، وأن منظومته الفكرية التي يتبعها هي خيرُ من أعلى شأن المرأة، وتحقَّقَ لها فيها ما لم تمنحْهُ إياها منظومات الأفكار الأخرى. لكننا نراه يستشْكلُ، في الوقت نفسه، حتى مَدَّ يده لمصافحتها خوفَ أن يستيقظَ فيه شيطان نفسِه الأمارة بالسوء، فيَفتِنَهُ، ويُفسِدَ عليه "ورَعَه" و"طهرانيتَهُ"، ويذهبَ ببعضِ "حسَناتِهِ" التي أجهدَ النفسَ طويلاً لجَمْعِها! (شاهدنا أحدَ كبارِهم يصافحُ الأمريكيةَ كوندليزا رايس، ويُبقي يدَه مغلولة إلى عنُقِه كلما استقبلَ سيدةً عراقية أو عربية، أو مسلمةً عموماً. وكان كثيرون منهم يستطيبون، خلال التسعينات، لقاء الأمريكية كذلك مادلين أولبرايت، ومصافحتها والانحناء لها "أدباً بالطبع!"، والابتهاج بأخذِ الصور التذكارية معها، وهم يحيطون بها "خاشعين"، منتظرين منها أن تضعَ في أيديهم مفاتيحَ جنان السلطة الخالدة!).

من المعلوم أن الثقافة، كما يُعرِّفها أهل اللغة عندنا، إنما هي الفطنةُ، والذوقُ، والحِذقُ في امتلاك العلوم والفنون والآداب التي يُطْلَبُ بها السُـمُوُّ على كل ما يُسيئُ للعقل والحياة والبشر. كما إن "التثقيف"، في الأصل اللغوي عند العرب، إقامةُ المُعْوَجِّ، وهو يعني التهذيب والتعليم كذلك.
ولا يبتعد المعنى عن هذا في اللغات الأخرى كثيراً. ففي اللغة اللاتينية، واللغات الهندوجرمانية، ينطوي تعبير (ثقافة، Cultura)، منذ ظهوره واستخدامه، على معانٍ عديدة، لها صلة بما يصنع الحياة ويؤدي إلى حمايتها وتطويرها. فهو يأتي بمعنى (الحراثة والفِلاحة والزراعة). كما يعني، ارتباطاً بمفاعيله، الاشتغالَ على الأشياء والنفس، وإعمال النظر فيها، ورعايتَها والحفاظَ عليها. ومن اشتقاقاتها (cult)، أو (Kult) في الألمانية، وتعني (العبادة والتقديس). وقد تطور هذا المفهوم فيما بعد، ليشمل معاني التربية والتعليم. ففي ألمانيا مثلاً، تحمل وزارة التعليم، في أيامنا هذه، تسميةَ (Kultusministerium)، فهي عندهم وزارة تعليم وعلوم وتنوير للعقول، لا وزارة "تقديس وعبادات!" ودَعَوات لهذا الدين أو ذاك، أو لهذا المذهب أو لمن يُنازعهُ الأحقيّةَ في الدين من مذاهب أخرى، فلهذه الأخيرة أمكنتها ومؤسساتها الخاصة بها، وكلّها خارجَ مؤسسات الدولة ومرافقها العامة.

وكما هو الحال في اللغات جميعها، خضع مفهوم (ثقافة) على مدى التاريخ، ومن نواح مختلفة، إلى تغيير وتطوير وتجديد في معانيه، ارتبطت جميعها بتجارب أهل هذه اللغات، وتغيّر أحوالهم، وحاجاتهم. لكنّ هذه التغيرات والتطورات، واختلاف الحاجات، لم تخرج به عما صاحبه، منذ البدء، من معانٍ ودلالات تعبّر عن محاولات البشر واجتهادهم في تشكيل حياتهم، واعمارِها وتطويرها، وإضفاء أبعاد جمالية عليها، وإعادة خلقها من جديد، طبقاً لتحولات الأزمان وأسئلتها وتحدياتها.

ولهذا فلست أرى، مثلاً، أن التخلف والارهاب والتعصب والحذقَ في الكذب والخداع والنفاق والقتل والنهب والفساد والتزوير والإكراه وتكميم الأفواه، وتجهيل البشر والتمويه عليهم، وغيرها من مذموم ما نراه من أفعال، ومكروه ما نعيشه من ظواهر، وطلبَ السلطان على الناس بواسطتها، أياً كان نوع هذا السلطان ومقاصدُه، يُجيزُ لنا أن نُلحقَها (حتى في الصياغة اللغوية) بالثقافة، أو نُضيفَ هذه إلى تلك. فالثقافة، في جوهرها وكما هو معروف، تحضّرٌ وتمدُّن في الفكر والممارسة، في الأقوال وفي الأفعال، واعادةُ تقويمها نقديا، على الدوام. أما هذه المقابح والمكاره، على اختلاف مسمياتها وأشكالها ودوافعها، والرايات التي يرفعها أصحابُها، فليست سوى نوع من انحطاط الفكر والأخلاق والسلوك وتخلّفِها على السواء.

أُدرِكُ أنَّ بعضنا يعمَد، أحياناً، إلى صياغةَ تعبيرٍ ما، تجتمعُ فيه النقائض، قاصداً من خلاله هجاءَ ظواهرَ وأفعالٍ ذات طبيعة بربرية ونزوع همجي، والسخرية منها. ولكن هل يعي جميعُ من يعثر على مثل هذا التعبير، أو يسمعه، هذا القصدَ، خاصةً سواد القوم في مجتمعاتنا؟ ألا نُنتجُ، من خلال جمعِ المتناقضات هذه، نوعا من الفوضى والضوضاء اللغوية تطالان الصياغةَ والمعاني معاً؟

انطلاقاً من حقيقة أنّ الأشياء تُنْسَبُ إلى أهلِها يمكن، في رأيي، إضافة مفهوم "ثقافة"، إلى ألفاظ وتعابير من قبيل التسامح، الإيمان الحق، الصدق، المحبة، الحوار، التأمل، الخَلق والإبداع، الجمال، النقد، السلام، السَماع، التمدن، العدل، الحريات، حقوق الإنسان، المصالحة، وغيرها مما يصنع الحياة ويحفظها، ويحرر الانسان ويزيد من وعيه.
فلنا أن نُضيفَ "ثقافة" إلى مفهوم "التنوير" فنقول "ثقافة التنوير". ولأنه من أهلها، وهي من أهله كذلك، أمكنَ لأحدهما أن يكون صفةَ للآخر، أو نعتاً له، كأنْ نكتب: " ثقافة تنويرية" أو "التنوير الثقافي". ولا يصِحُّ، في تقديري، أن نذهبَ إلى صياغة تعبير "ثقافة الظلام"، أو "الثقافة الظلامية" مثلاً. ظلامُ العقل وظلاميته ليسا من الثقافة، ولا من العقل بشيئ. فإذا كانتِ الثقافةُ نوراً، وكذا العقلُ، فإن ظلامَ الأفكار وظلاميتَها ذهابٌ لنور الثقافة والعقل معاً.

نسبةُ الشيئ إلى أهله، أو إلى ما يُضارِعُهُ تُبيح لنا أن نتحدث، مثلاً، عن "ثقافة الكتابة والكتاب". فقد كان اهتداء العقل العراقي القديم، في الألف الثالث قبل الميلاد، إلى ابتكار ما يُعرَفُ بالكتابة المسمارية ، لحظةً حضارية "الهية"، في عصر وثني. وكان فتحاً ثقافياً مُبيناً، ما تزال البشريةُ تتمتع ببركاته إلى يومنا هذا. لقد منح هذا الابتكار الأفكارَ، ومعها الحروفَ والكلماتِ والألفاظَ، امكانية أن تُحقِّقَ نفسَها في فضاء آخرَ مختلفٍ، هو فضاء الكتابة بنظام آخرَ، غيرِ نظام التعبير السابق بالرسوم والعلامات. ومع الانتقال بالتعبير من الراوية الشفاهية إلى التدوين والكتابة على الألواح الطينية، أو الجلود، أو ورق البردي والورق فيما بعدُ، تحقَّقَ الشرطُ الأساسيُ الأول لازدهار الثقافة الانسانية.
بفضل هذا الانجاز الثقافي لم تعد آدابُ حضارةٍ ما، ونصوص تاريخِها ونُظُمِها السياسية والادارية والقانونية والاقتصادية والتربوية، وكذلك أديانها وطقوسها وعاداتها، وأنماط حياتها عموماً، عُرْضَةً للضياع والنسيان حالَ أفول تلك الحضارات واندثارها. ابتكارُ العقل العراقي للكتابة والتدوين فتح السبيل لحفظ الكثير من هذه الآداب والنصوص والخبرات. وصارت الأجيالُ اللاحقةُ تتوارثها، وتستحضرها وتتفاعل معها، آخذةً منها ومضيفةً إليها. وهكذا أمكن للموروث القديم أن يستعيد بعضَ وجوده في الجديد.
(أتُرانا بحاجة للقول بأنْ لا علاقةَ، أبداً، بين روح ذلك العقل الابتكاري، العراقي القديم، وثقافته والثقافةِ السائدة، اليومَ، في بلادنا وعقلِها. كان ذلك العقلُ يبتكرُ أوائلَ الأشياء لحاضر البشر، آنذاك، ومستقبلِهم. ثقافةُ اليوم السائدةُ، عندنا، وعقلُها يُقيمان في الماضي، يَجْتَرّانِ رواياته وأحداثَه ونزاعاته، ويرهنان حاضرَ الناس ومستقبلَهم بهِ ولهُ!).

"ثقافة الكتابة والكتاب"، في أصلها، ثقافةٌ إذنْ، تتوفر فيها أدوات الثقافة وعناصرها ومقاصدُها أيضاً. وهي ثقافةٌ استدعَتْ ثقافةً أخرى، هي "ثقافةُ القراءة". وكان لا بد لهذين الثقافتين أن تُمَهّدا الأرضَ لقيام ثقافة ثالثة في السياق ذاتِه، هي "ثقافة الدرس والمدرسة". ومثلما كشف البحثُ الآثاري فقد نشأت أولى المدارس في بلاد الرافدين.
تطور هذه "الثقافات" الثلاث اشترط، فيما بعدُ، نشوءَ مؤسسةٍ ثقافية لم تعهَدْها البشريةُ من قبلُ، هي المكتبةُ. وكانت أُولاها مكتبة (آشور بانيبال) بنظامها الثقافي في حفظ "كتب" الألواح الطينية، وفهرستها وإعارتها. نظام أدهش علماء الآثار والباحثين في ثقافة العراق القديم.
(من مساخر هذا الزمن العراقي (أعني زماننا الحالي)، وتديّناتِه السياسية بألونها المختلفة، أنْ سقطَتْ (نينوى)، عاصمة (آشور)، ومعها مكتبتُها الشهيرة هذه بين براثن "دولةِ خلافةٍ اسلاميةٍ" داعشيَّةِ الفقهِ والراية!).

ولكنْ يظلّ لنا أن نتساءلَ: هل كلُّ كتابة، وكلُّ كتابٍ، وكلُّ قراءةٍ لكتابة أو كتابٍ، وهل كلّ درسٍ ومنهاجُ تدريس، ثقافةٌ بالمعاني التي يختزنها هذا المفهوم؟
الكتاباتُ والكتبُ، وأشكالُ قراءاتِها، وكذلك المكتباتُ التي تؤويها، ومثلُها مؤسسات الدرس والتدريس، تكون جديرةً بتوصيف (ثقافة)، وإضافته لها، حين تُصبحُ، في تقديري، أمكنةً للحرية العقلية، والثقافية عموماً، ورمزاً لها. أمكنة لتحرير الانسان، وتمكينه من أن يتغَيَّرَ ويُغَيِّرَ، ويحقِّقَ ذاته المستقلة فكرياً وثقافياً.
وفي موازاة هذا، ما أكثر الكتابات والكتب في تاريخ البشر، ماضياً وحاضراً، وكذا الدروس المؤدلَجَة، والقراءات المؤدلَجَة، المشدودة بسلاسل الأحكام المُسبَقَة، المطلقَة، والتي تُمثّل، في الحقيقة، سجونا للأفكار ولحرية العقل، وتكريس خضوعهما لمؤسسات "الوصاية" الكثيرة التي تنوء كواهلُ الناس بأحمالها، تحت واجهات شَتّى.

نسبةُ الشيئ إلى ما يُماثله معنىً، وروحاً ومقاصدَ، تُجيزَ لنا أن نرى في القانون والتشريع ثقافةً كذلك، فنقول "ثقافة التشريع" مثلاً، ما دام مقصدُ التشريع منعَ المظالم وإقامةَ العدل بين الناس جميعاً، وإحقاقَ الحقوق دون تمييز مطلقاً، وحماية كرامات الناس، وضمان حرياتهم العامة والخاصة. خروج التشريع على أيٍّ من هذه المقاصد يسلِبُهُ صفةَ "الثقافة القانونية"، ويُبيحُ للناس الخروجَ عليه، ورفض طاعته، أو الأخذِ به.
لو أخذنا مشروع (قانون الأحوال الشخصية الجعفري) مثالاً، فسوف نجدُ انَّ "ثقافةَ" التشريع فيه أصبحت خادمةً لنزوع الهيمنة والاستبداد الذُكوريين. نحن إزاء حالة يُشَرِّعُ فيها النظامُ الذكوري لنفسه "قانوناً اقطاعياً" يمنح فيه "مستحقاته" الذكورية بُعداً "قُدسياً"، يتمترسُ خلفهُ بشراسة الوحش الظامئ لدماء فرائسِهِ، حتى وإنْ كُنَّ قاصراتٍ لم يبلغن سنَّ الرشد بعدُ!
وزارة "عدلٍ" في دولة يقول عنها حكامها أنها "دولة مدنية"، لا طائفية، تُشَرِّعُ قانوناً لطائفةٍ، لا عدلَ فيه ولا مدنيةَ!.
وهو قانون تبدو صورة المرأة فيه، عملياً، أشبهَ برقيقٍ تخضعُ للبَعْلِ، الفحلِ، الملِكِ المالكِ، السيّدِ الذَكَرِ، وتحيا لطاعته وإرضائه!. هل يُعقَلُ أن يحدثَ هذا في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة بعد الميلاد؟ ازدواجيةُ الخطاب البلاغي لأصحاب هذه العقلية حول حقوق المرأة ومساواتها، ونفاقُهُ يكشفان في هذا التشريع عن عُرْيهما الفاضح.
تشريعٌ كهذا لاينتسِبُ للثقافة، ولا يجوزُ أن تُنْسَبَ هي إليه. يُمكنُ لألفاظٍ مثل "مظالم"، "ظلامية"، "عَسَف"، "لا عدالة" أو "حماقات" أن تتضايفَ وإياه، فهو منها وهي منه، وهكذا "يوافقُ شَـنٌّ طَبَقَه!".
مظالمُ هذا التشريع أشار لها عدد غيرُ قليلٍ من فقهاء المذهب وشيوخه كذلك.

ولما رأينا أن القاعدةَ العقليةَ توجبُ نسبةَ الأشياء إلى أهلها، حيث نعيدُ الجميلَ إلى الجمال، والعادلَ إلى العدل، والصادقَ إلى الصدق، والحبيبَ إلى المحبة، مثلاً، وجبَ علينا أن ننسبَ القبُحَ إلى ما هو قبيحٌ مثله، ونُطلقَ سراحَ مفهومِ "ثقافة" من أن يكون مُضافاً إلى ما لا يصحُّ أن يُضافَ إليه.
تعابير من قبيلِ : ظلامية، وحشية، جهالة، بربرية، همجية، هَوَس، عورَة، عَسَف، عتمة، لعنة، خطيئة، حماقة، لا معقولية، لا إنسانية، لا مدنية، عبودية، وغيرها، هي ما ينبغي نسبتُها إلى تلك المقابح وما يماثلها، أو يزيد عليها في وحشيته.
فإضافة هذه التعابير، وما يُضارعها، إليها تجعل من معانيها الحقيقية ودلالاتها أكثر جلاء للقارئ والسامع، وربما لمن يُمارسها، كذلك.

صحيحٌ أن هذه المقابح والشرور تجسِّدُ أنماط تفكير وسلوك بعينها، فرديةً وجمعيةً، أفرَزتها منظومات فكرية ذات جوهر شمولي، في الغالب. وقد يقول قائلٌ: أليس منظومات الأفكار، بصورة عامة، نوعاً من الثقافة، بمعزل عن جوهرها، وما تُنتِجه وتؤدي إليه، في النهاية؟
لقد قامتِ (النازية) و(الفاشية)، مثلاً، على منظومة فكرية ذات طبيعة عنصرية ودكتاتورية، معادية للانسان والحياة، فهل لمثل هذه المنظومة الفكرية، ولكثير غيرها من (العمائر الفكرية!) ذات الروح الظلامية التي عرفها التاريخ البشري، في الأمس البعيد والقريب وكذلك في أيامنا هذه، صلةَ ما بالمعاني الحضارية والانسانية والتنويرية لمفهوم "ثقافة"؟
إضافة هذا المفهوم إليها، ولما تفرزُه من ظواهر مخربة للعقل وللحياة وتطورها، حتى على سبيل المجاز، تؤدي إلى نوع من تمويه وتضليل ينطويان، وإن دون قصد منا، على إهانة للثقافة وجوهرها الانساني. كما أن مثل هذه الإضافة قد تُظْهرُ من يقوم بارتكاب هذه القبائح وكأنه على شيئ من التحضُّرِ والتمدُّن، في حين أنْ لا شيئَ له من هذين، في الحقيقة، ولا نصيبَ لهما فيه.