المنبرالحر

رواية سلام عادل الوثائقية / قاسم حول*

أغلب المثقفين العراقيين تخرجوا من مدرسة الحزب الشيوعي العراقي. (وهذه حسنة تضاف إلى حسنات الحزب الكثيرة وسيئاته القليلة.) وهؤلاء المثقفين في مدرسة الحزب الشيوعي العراقي قسم منهم رسب في الأمتحان فتحول إلى شخص معاد بدون موضوعية، أو امتدت يده نحو الدفاتر والأقلام والمدرسة وترك الحزب أو فصل منه! وقسم من هؤلاء الطلبة كان مكملا في امتحان الوطنية والثقافة والسياسة وبات عليه إعادة قراءة الدرس والامتحان ثانية، وقسم ثالث نجح في الامتحان.
سلام عادل نجح في الإمتحان بتفوق. وعندما أعتقل من قبل الفاشست في شباط من عام 1963 صمد صموداً أسطورياً سواء في منطق مجابهة المحققين أو في بث روح الصمود في فترات يتعب فيها المعذبون من إيذائه ومن صموده، فيذهبون هم للاستراحة ويستغل هو هذه الفترة لبث الصمود في وجدان المعتقلين من رفاقه فيما هو مهشم الأوصال مدمى الجسد.
ليس هذا من عندي ولا هي مخيلة مخرج سينمائي أو كاتب سيناريو!
عندما عدت من النمسا قبل سقوط تجربة الفاشست الأولى عام 1963 وبعد تيقني من انهم فاشلون وأن تجربتهم تدور في دائرة السقوط، وبعد أن سقطوا فعلاً وصاروا يرسلون اسلحتهم وملابسهم الخاكية في سلال من خوص النخيل تحمله زوجاتهم إلى مراكز الشرطة، إسترحنا منهم ومن جورهم في تشرين الثاني من نفس العام 1963.
ذات يوم وأنا في منزلي في كمب الأرمن قريبا من ساحة الطيران ببغداد، زارني كادر شيوعي وهو يحمل بيده كيساً. فتحه وأخرج منه دفتراً مدرسياً بحوالي مائة ورقة. أتذكر أن غلاف الدفتر كان أزرقاً وعليه ورود بيضاء. قدمه لي، سألته عن الامر فقال لي نرجو منك أن تقرأ ما كتب في هذا الدفتر وتسمعنا رأيك فيما إذا كان ما كتب هنا قصة سينمائية أم مسرحية أم رواية.
تصفحت الدفتر وقرأت بضعة سطور وكلمات وحاولت أن أجد إسم الكاتب فلم يكن مكتوباً. سألته عن إسم الكاتب قال لي ليس ضروريا معرفته ولم أفهم حتى اليوم لماذا ولكني نسبت ذلك إلى دقة السرية ومخافة نتائج الكشف.
غادرني الكادر الشيوعي وترك الدفتر عندي أسبوعاً. وخلال ذلك الأسبوع قرأت ما كتب في ذلك الدفتر.
الرواية هي عن سكرتير الحزب الشيوعي العراقي في تلك الفترة وهي رواية وثائقية حسب ذاكرتي مزج فيها الواقع بالمخيلة الموضوعية، فالرواية تبدأ من لحظة إعتقال سلام عادل وكيف تم عصب عينيه ويصف الكاتب مشاعره وهو بداخل سيارة الفاشست ويعرف أنه يجتاز الجسر عابرا نهر دجلة نحو مصير مجهول، فيبدأ في تلك اللحظات التحدث مع نفسه عن هواجسه وعن الوطن ونهر دجلة تسري مياهه في جسد الوطن.
يستمر وصف مشاعر سلام عادل حتى وصوله قصر النهاية سيئ الصيت، قصر التعذيب الذي يحتله الفاشست.
تبدأ مشاهد التحقيق والحوار بينه وبين الفاشست ثم مشاهد بداية التعذيب وصموده الأسطوري حتى يتعب الفاشست وهو لا يتعب. بعدها يسحب نحو صالة فيها عدد من رفاقه وهم يئنون من وجع التعذيب، فيصبرهم ويحدثهم عن غد آت أكيد.
وتستمر فصول التعذيب القاسية، وكان الفاشست يحاولون أن يجعلوه ينهار فيسقط، وبسقوطه يسقط المثل، وسقوط المثل يعني نهاية الحزب ونهاية الأمل الذي يرسمونه. هذا الصمود والمثل الأكيد هو الذي جعل الأنبياء يخلدون، ونرى أكثر الأنبياء تعذيبا هم الأكثر جماهيرية. راجعوا أسماء الأنبياء وراجعوا عدد أتباعهم (يوحنا المعمدان، المسيح، موسى، محمد).
صمود سلام عادل الذي مثّل عدم سقوط المثل هو الذي حفز حسن سريع من سكنة مدينة الثورة على القيام بحركة الثالث من تموز عام 1963 التي هزت قلاع الفاشست وأرعبتهم وأربكتهم. لكن هذه الحركة المغدورة التي جاءت إستجابة لصمود سلام عادل، أفشلت وأعدم قائدها حسن سريع وهو يهتف بحياة شعبه.
يستمر الكاتب ويجعل الحوار على لسان شاهد من السجناء. لا تشير الرواية لا بالإشارة الصريحة ولا بالتلميح إلى ذلك الشخص الذي جعلته الرواية ضميراً أمام ما يحدث حتى لحظة إستشهاد سلام عادل.
كان علي إعادة الرواية للحزب. أتذكر جيدا انني أبديت ملاحظاتي التي تمثلت بأن الرواية ذات طابع وثائقي. وإن الكاتب ليس كاتباً روائياً كبيراً، لكن الرواية تملك مواصفات العمل الروائي وأن أهميتها تكمن في صدقها. وواضح أن المؤلف ليس كاتبا إحترافياً، لكنني قلت أن أهمية هذه الرواية تقتضي أن تكتب بلغة روائية عالية المستوى حتى يتفاعل الشكل مع قوة المضمون، وينبغي أن تذهب مخيلة الكاتب بعيدا نحو جانب من الحياة الإنسانية الخاصة للشهيد سلام عادل الذي كان رمزاً للمثل بصموده النبوي، وهو ما جعل الحزب يبقى فهذا وحده حسنة ينبغي تحويلها إلى مصحف متجدد الدم يتجاوز التعصب والستالينية أحياناً.
أنا هنا أدعو من يحتفظ بذلك الدفتر ان يعيده إلى ذاكرة الحزب كي يحال إلى كاتب روائي يستقي من الأحداث الحقيقية ومن كلمات سلام عادل الموثقة، وهو الذي كان يبلغ حوارات التحقيق إلى رفاقه السجناء كذلك كلماته التي يطلب منهم فيها الصمود.
هذه الرواية مهمة لأن شخصية سلام عادل في مسارات قيادات الحزب إضاءة في درب مسيرة شعب ولا أقول مسيرة حزب .. فسلام عادل هو إضاءة في مسيرة شعب بصمود الأنبياء الذين يحبون شعبهم ويحبون الإنسانية.
أطلب ممن يملك ذلك الدفتر الذي يضم تلك الرواية الوثائقية أو من يملك معلومات عن ذلك الدفتر - الرواية أن يعيدها إلى أهلها كي تسهم في تأسيس الذاكرة العراقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا
حالياً في العراق
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.