المنبرالحر

تكنوقراط / مازن العاني

حين يجري الحديث عن عوامل اخفاق الحكومات المتعاقبة بعد 2003، يساق عامل غياب او تغييب التكنوقراط عن المفاصل الاساسية في الحكومة والدولة، وهذا صحيح الى حد ما و لا غبار عليه.
ومنذ دخلنا معمعة تشكيل الحكومة الحالية تعالت نبرة الحديث عن التكنوقراط وضرورة الاهتمام بهم في الكابينة الوزارية القادمة. و هذا صحيح ايضا و لا غبار عليه.
و مع هذا دعونا نقترب من حقيقة دعوات بعض النواب والسياسيين التكنوقراطية، هؤلاء الذين لا يترددون كلما سنحت لهم مناسبة في الافصاح عن الحنين الى العهد السابق و»منجزاته الصناعية والتقنية الكبرى»! ووصل الامر ببعضهم حد المطالبة بالسماح بنشاط حزب البعث ورد الاعتبار لعتاته.
أسوق لكم هذه الحكاية لنتعرف على تكنوقراطية البعث و «منجزاته الكبرى»، وهو الذي ارتبط عدد من دعاة التكنوقراط الجدد به باكثر من وشيجة: منتصف سبعينيات القرن الماضي زار احمد حسن البكر كلية الهندسة/ جامعة بغداد. حينها كانت الفورة او الثورة أو الثروة النفطية في اوج صعودها و ازدهارها. خلال الزيارة استمع الرئيس الى مطالب الاساتذة و الطلبة، و كان الاهم من بينها تحديث اجهزة مختبرات وورشات الكلية التي فات عليها الزمن.
وجد الرئيس ان من واجبه طمأنة الحاضرين بطريقة تكنوقراطية محدثة: «لا تنشغلوا بمستوى التعليم و تطوير العلوم، اطمئنوا ، ليس لدينا مشكلة مع هذا الامر، لدينا من الثروات اليوم ما يمكننا من جلب افضل خبراء العالم الى هنا واستيراد آخر منتجات التكنلوجيا في اليوم التالي لطرحها في اسواق اليابان و امريكا. لا تجهدوا انفسكم بالدراسة و التدريس، ما نحتاجه اكثر هو ان يكون لدينا رْجال تعرف تْكاوِنْ..!». و كأنه كان يهيْ لِلكونات الخائبة التي خاضها خلفه.
اما كيف جرت ترجمة هذا النهج التقني و باتقان، فخذوا هذه العينة من بين سيل جارف من العينات المماثلة: «نهاية السبعينيات عين مدير عام جديد، لا يملك شهادة جامعية اولية، في احدى المؤسسات الكبيرة في وزارة الصناعة و المعادن، بعد ان ازيح خلفه الحاصل على شهادة عليا في الكيمياء من احدى الجامعات الامريكية، والذي جرت تصفيته لاحقا في مجزرة قاعة الخلد. وفي اليوم التالي لمباشرته دعا المدير الجديد العاملين، ليعرفهم على نفسه أكثر مما كان راغبا بالتعرف عليهم: «شخصيا لا اتذكر ماذا درست و ماذا تعلمت، و لا عدد المرات التي رسبت فيها، وكيف كنت اجتازالامتحانات، غير اني أذكر جيدا عدد و اسماء الذين ضربتهم و الاخرين الذين ضربوني. اتذكر كم مرة اشعت الفوضى في المدرسة لالغاء امتحانات او لنقل مدرس لم يعجبني شكله او لون بدلته. ما اريد ان تعرفوه هو اني ساتسامح معكم حتى وان سرقتم او خربتم داخل المؤسسة، او تقاعستم عن العمل. حالة واحدة لن ارحم فيها؛ اذا عرفت ان لاحدكم صلة بعمل سياسي يمس وجودنا في السلطة، ساعتها سيكون هناك قطع للرقاب..!! «
مشهد اخير: حين كنت معتقلا مع الشهيد د. صباح الدرة في مديرية الامن العامة صيف 1979، كان من عادة الجلادين ان يبدأوا عمليات تعذيب المعتقلين في العاشرة صباحا ويستمروا حتى الثالثة من صباح اليوم التالي. يومها علق الشهيد صباح بسخرية و ألم : « آه يا بلد؛ المؤسسات الوحيدة التي تعمل فيك بكامل كفاءتها وباكثر من طاقاتها الانتاجية هي السجون والمعتقلات المنتشرة في كل المدن».