المنبرالحر

جرأة..وعين زجاج / قيس قاسم العجرش

كان يجلس بجسده الضخم خلف مكتبه، يكرع أقداح الشاي ويدخّن حين سألته، إن كان قد نفذ أمر العمل الذي استلمه منذ يومين من اجل تطوير بسيط لأفران التجفيف؟ لأنه هو المسؤول عن هذا النوع من الإنشاءآت في الشركة.
أجاب بثقة: ليس لدي الحديد اللازم، اذهب للمدير العام واجعله يوافق على صرف مبالغ للحديد الإضافي وسأنفذ المُخطط.
لكن الحديد كان يملاً الورشة بالفعل! قال : إنه حديد محجوز للرئاسة!
تساءلت :أي رئاسة؟! فأجاب بكل بهدوء: رئاسة الجمهورية!
لم يكن قد مضى عليّ في الوظيفة سوى عام يتيم ولم افهم ما علاقة رئاسة الجمهورية بكومةٍ من الحديد الخردة في ورشة للحدادة داخل شركة من بين مئات الشركات في وزارة الصناعة. وفي الحقيقة صدّقـته الى حد بعيد لأن اسم رئاسة الجمهورية كان كافياً لإرعابي.
أسقط في يدي. لو ذهبت الى المدير العام أطلب منه تخصيصات اضافية فسأكون قد كسرت إدعائي الأول بأن الأفران يمكن تطويرها ببساطة دون شراء أي شيء. ولو تركته سأبدو مهملاً في واجبي بعد أن اقترحت الاضافات الحديدية ورسمت مخططاتها البسيطة.
ولو أجبرت هذا الحداد المتوحّش على التنفيذ فسأكون مثل من يشتم المقدّسات، إذ إنني أمدّ يدي الى اسرار الدولة (حديد مخصص لرئاسة الجمهورية!) وتخيّلت نفسي مسحولاً في جهاز المخابرات!.
طلبت نصيحة مهندس كهل أثق به، وبعد التأمّل قال لي: إن المدير العام يقوم بجولات اسبوعية فاحرص على ان تتواجد قرب الأفران إذا ما زارها، وهناك اعرض له التعثـّر وخوفك من حديد رئاسة الجمهورية! لكنّه حذرني من التقرّب مرّة ثانية من هذا الوحش الحداد، فإن له درجة حزبية وقلماً يجيد فن التقارير!
وفعلاً رأيت المدير العام في الورشة وأمام الفـُرن، وعرضت له التأخير وسببه وأن الحديد الموجود هو حديد رئاسة الجمهورية!..وهذه لم أكن اعلم بها حين رسمت مخطط التطوير!. وبضحكة كبيرة سألني عمن اخبرني بهذا، قلت : السيد مسؤول قسم الحدادة.
التفت الى أحد مرافقيه وقال: هل ما زال فلان يكذب نفس الكذبات منذ زمن البكر؟! ثم وجّه أحدهم أن يحثه (بلطفّ!) على انجاز العمل.
خلال يومين تاليين، نفـّذ فلان أمر العمل وباستخدام حديد رئاسة الجمهورية! واستلمت التطوير من ورشة الحدادة وفقاً للمخطط مع جملة ما زلت أذكرها قالها السيد المسؤول الذي ارعبني في البداية.
قال: لم أنفذ المخطط خوفاً من المدير العام!...لكني نفـّذته وتحمّلت مسؤولية استخدام حديد الرئاسة فقط من أجل العراق!...كل هذا من أجل العراق !.
كتمت ضحكتي طبعاً خوفاً من تقرير يُرفع قد يصفني فيه وقد استهزأت باسم العراق...ومنذ ذلك الحين أراقب عيون كل من يكرر القول: كل هذا من أجل العراق!.