المنبرالحر

من منصة الاعدام السوداء الى منصة التتويج الباهرة ..!! / علي فهد ياسين

يستمر المبدعون العراقيون في الداخل العراقي وفي دول الشتات التي أُجبروا على اللجوء اليها في أزمنة القمع ، بالرد النوعي على أنشطة الدكتاتورية البغيضة التي أستهدفتهم طوال الخمسة عقود الماضية من حكم العصابات ، التي أعتمدت أساليب مختلفة لتحويل الشعب الى قطيع يُسبًح بحمد الحكام الأجلاف على علاتهم، وافضت الى الخراب العام الذي طال حياة العراقيين بكل تفاصيلها ومازال .
هذه المرة فارسنا من طراز خاص ، هو رجل مسرح ، ممثل ومخرج ومؤلف وسينوغراف وباحث وكاتب رواية وقصة ، هو مدرس سابق في جامعتي ( كانت ) و ( أنتورب ) البلجيكيتين ، ومشرف في معهد الدراسات العليا للفنون في أمستردام ( داس آرتس ) ، وهو مدير سابق لمحترف ( صحراء 93 ) المسرحي ومدير حالي لـ ( جماعة زهرة الصبار ) المسرحية البلجيكية.
فارسنا هو ( حازم كمال الدين ) ، جذور أجداده في ( النجف ) ، مولود في بابل في العام 1954 ، مطلع شبابه في كربلاء ، وبدايات تدفقه الأبداعي في بغداد في منتصف سبعينات القرن الماضي ، قبل أن يُجبر على مغادرة العراق في العام 1979 اثر الهجمة الفاشية لنظام ( صدام حسين ) على القوى الوطنية العراقية والحزب الشيوعي العراقي تحديداً ، لأفراغ الساحة العراقية من غير البعثيين الموالين لمخططاته الأجرامية.
في بيروت عمل مع المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية في مرحلة الصراع الشرس مع أسرائيل لغاية عام 1982 ،وأجبر بعدها مرةً أُخرى على المغادرة الى دمشق ، مع رحيل المقاتلين عنها وفق الترتيبات الامنية المعروفة لتهدئة الاوضاع في لبنان ، قبل أن يغادرها الى بلجيكا ( التي يحمل جنسيتها الآن ) في العام 1987 ، ولازال يحتفظ بهويات مشرفة لتأريخه الانساني المقاوم للظلم والأحتلال ، هويات من منظمة التحرير الفلسطينية ، والجبهة الشعبية التي أهداها له ابن عمه ( زهير كمال الدين ) والجبهة الديمقراطية التي أهداها له القائد الفلسطيني ( ياسر عبد ربه ) ، اضافة الى علاقته بالحزب الشيوعي اللبناني من خلال المناضل والمسرحي ( مالك الأسمر ) ، الذي يقول أنه تعلم منه ( أن الثورة موجودة بالفطرة ، وهي خارج الايدلوجيات والأديان ).
هذا العنوان العراقي ( المضيئ ) ، لم ينزوي في بلجيكا ، البلد الذي وفر له الأمان الذي كان أفتقده في بلد مولده العراق ، وفي محطات تنقله التي كان وفياً فيها للمبادئ الانسانية التي آمن بها ودافع عنها متحملاً المخاطر الجسيمة التي كادت تودي بحياته في أكثر من توقيت ، بل ثابر وأجتهد وكافح بأصرار نوعي أوصله الى مستويات باهرة على طريق طموحاته الابداعية ، بعد أن أيقن أن ( لا بيانات ثقافية سوى الفعل الابداعي ، لا بكاء بقدر ما ننظر بواقعية لما يحدث لوطننا ، لنضع النقاط على الحروف ) ، ومازال مجتهداً على ذات الطريق الذي أختطه منذُ كان برعماً نوعياً في بغداد التي أحبها ومازال.
حازم كمال الدين ( البلجيكي الجنسية الآن ، والعراقي الأصل والفصل والجذور ) ، فاز بجائزة أفضل نص مسرحي ( للكبار ) في المسابقة السنوية التي تقيمها ( الهيئة العربية للمسرح ) ، دورة هذا العام ، عن نصه ( السادرون في الجنون ) ، من بين ( 134 ) نصاً مسرحياً مقدماً من ( 19 ) دولة عربية ، وهو تتويج باهر يستحق التقدير والأعتزاز ، بعد مارثون أبداعي كبير ومستمر طوال ربع قرن من المثابرة في الغربة ، أفضى عن تقديم أعماله المسرحية التي تجاوزت الخمس وعشرين نصاً ، في مهرجانات عالمية للمسرح ، اضافة الى تقديمها على مسارح في بلجيكا وهولندا وانكلترا وكندا ، ناهيك عن جهوده المتواصلة في مجالات عمله الابداعي متعدد الفروع والالوان في مجال المسرح والرواية والقص والبحوث .
ولأننا ومعنا ( حازم كمال الدين ) وكل الوطنيين ، لا نكيل الا بمكيالِ واحد ، تعالوا نعتمد الكيل العادل بعد ما يقرب من أربعة عقود على غربة هذا المبدع الكبير وآلاف المبدعين غيره ، وملايين العراقيين المجبرين على مغادرة الوطن أو مغادرة مدنهم ، تعالوا نُقارن بينه وبين الجلاد الذي حكم عليه بالاعدام اكثر من مرة ، لنخلص الى نتائج أفعال الجلاد وأفعال الضحية ، وعلى أساس المقارنة العادلة ، يكون حازم المجتهد وغيره الآلاف ممن أجبرهم الدكتاتور على مغادرة العراق، والذين لازالوا مجبرين الى الآن على البقاء خارجه، يمثلون اللوحة المضيئة في تأريخ العراق واجتهاد أبنائه النجباء ، فيما يمثل الجلاد و ( السادرون في الجنون ) على شاكلته الآن ، الصورة السوداء المخزية في التأريخ العراقي المُثقل بالمآسي والويلات نتيجة سياساتهم التي كانت ولازالت لا تمت للأنسانية بصلة .
تحية وتهنئة من القلب والضمير، لهذا الأنسان والفنان الذي كان ولازال ( وجعه أكبر من جيل ) ، حازم كمال الدين ، الذي شرفنا جميعاً باجتهاده ، الذي أرتقى به منصة التتويج التي أستحقها ، بديلاً عن منصة اعدامه ! .