المنبرالحر

هل نجحت الدولة العراقية الحديثة في تحقيق الوحدة الوطنية؟ / د.عبد العظيم جبر حافظ

ان الطائفية - ولا زالت- واحدة من المعوقات التي تقف في وجه الوحدة الوطنية العراقية، ولا زالت محاولات التشكيك بعروبة/ أو عراقية (الأغلبية) في العراق التي اضرت بالشعب العراقي، والا كيف نفسر ان يكون العراقي من عشيرة شمر (السُنّي) (عراقي/ عربي)، والاخر نفسه من عشيرة شمر (الشيعي) غير عراقي؟ وغير عربي؟ وعلى الرغم من عمليات الاحتجاج ومحاولات تصحيح المسار الطائفي في العراق (مشروع محمد حسين ال كاشف الغطاء، ميثاق النجف 1935، مشروع محمد رضا الشبيبي/ 1965) لكنها لم تلق آذاناً صاغية( 1).
اما في العهود الجمهورية، فقد اتصف العهد الجمهوري الأول (عبد الكريم قاسم) بالناي عن التمييز العرقي والديني والطائفي، محاولا تجاوز العرف الذي كان سائدا ومعمولا به في العهد الملكي، لذلك عدت هذه السياسة خروجا عن المالوف من قبل غلاة الطائفية والطائفية السياسية والمستفيدين منها، الأمر الذي أدى إلى التحالف بين القوميين وقوى سياسية أُخرى (الكورد) إلى الاطاحة بـ(عبد الكريم قاسم)( 2). وفي عهد (عبد السلام محمد عارف) فقد أعاد العمل بالعزل المذهبي في العمل السياسي والحكومي وبالهوية العرقية الطائفية علنا( 3).
وفي عهد (النظام السياسي السابق) (1968-2003) بلغت الطائفية حدا لم يسبق لها مثيل وفي المدة التي تبوأ فيها رئيس النظام المخلوع (صدام حسين)، رئاسة الجمهورية وانفراده بالمناصب الكبرى في الدولة، وما يؤكد طائفية هذه الدولة في عهده، تصفية الكثير من أعضاء (حزب البعث) من (الشيعة) وهم أكثر كوادره ومؤسسيه (مثلا فؤاد الركابي)... وقد أشار (جواد هاشم) في كتابهِ المرسوم (مذكرات وزير في عهد البكر وصدام) إلى الكثير من الممارسات الطائفية في قيادة حزب البعث (علما انه حزب علماني)( 4).
ان التعدد والتنوع ليسا سبة، بل هما مدعاة للفخر والتآخي والوحدة في بوتقة الوحدة الوطنية، والولاء للوطن، واثراء المجتمع لو احسن التعامل مع هذه التعددية بعقلانية وعدالة، والمساواة في الحقوق والواجبات والتكافؤ في الفرص، لاشعار الجميع بانهم مواطنون من الدرجة الأولى، وليس مواطنين على درجات متباينة. فسمة الطائفية التي سادت بين أفراد الشعب العراقي عززها التميز الطائفي من السلطة الحاكمة، وغياب العدالة، ومحاباة طرف على آخر، واستئثار فئة واحدة بالسلطة والنفوذ والمال. فمن الطبيعي ان تسود حالة من التذمر والتقاطع مع السلطة السياسية ومعارضتها. هذا ما تعاملت به الحكومات المتعاقبة في الدولة العراقية بدءا من تأسيسها. إذن لم تعمل الدولة العراقية على بناء دولة المواطنة والقانون، وبذلك فقد أخلت وهددت بناء أسس الوحدة الوطنية العراقية.
يرى (هنتنغتون) إن أساس الصراع في العالم الجديد لن يكون (إيديولوجيا واقتصاديا) فحسب، وإنما هناك انقسامات بين الناس وان السمات الطاغية في هذه الانقسامات هي الثقافة، فالصراع سوف يكون بين أمم وجماعات ذات حضارات متباينة؛ ويضم المجتمع مجاميع بشرية ذات انتماءات متعددة ثقافيا، ان بقاء الأفراد عاكفين على تحديد هوياتهم من منطلقات عرقية ودينية من المحتمل ان يظلوا يرون ان هناك علاقة بين (نحن) و(هم) وهناك رابطة بينهم وبين الذين يختلفون عنهم من حيث الانتماء العرقي أو الاثني، ومن الممكن ان تؤدي هذه الفروق الثقافية إلى ظهور خلافات حول حقوق الإنسان والتجارة والبيئة(5). ففي موضوع الأقليات والاثنيات منذ تشكيل الدولة العراقية1921، لم تتمثل هذه الانتماءات في الإطار الثقافي العام للمجتمع، وإنما واجهت سلسلة من التحديات والتوترات، وهذا ما عزز تكتلها في العمل السياسي مثل (الكورد، التركمان، المسيحيون، الصابئة، الايزيدية) وبما إن الدولة العراقية قد بنيت على أساس طائفي، فقد سلمت إدارة الحكم العليا إلى العرب (السنة) أكثر من غيرها من الأقليات والاثنيات، لقد أعطى هذا البناء الاجتماعي للمجتمع العراقي أفضلية لبعض الجماعات أكثر من غيرها الجماعات من الجماعات الأُخرى، هذا ما خلق نوعاً من التمحور الاثني والطائفي في المجتمع العراقي من جهة، واستقطاب حكومي نخبوي أدى إلى إثارة الخلافات بينهما، واستخدام القوة لصهرها عندما أرادت اثبات هويتها، (سيما الكورد)، لذلك ظهرت النزاعات المسلحة طيلة عقود طويلة إلى عام1991 مع الحكومة العراقية(6). فعملت الحكومة العراقية على طمس الهويات باستخدام القوة، مما دفعهم في الإيغال في المطالبة باستقلالهم مثال (الكورد)، إما الأقليات الأُخرى فقد تعرضت للاضطهاد وبتهم (غير العربية والشعوبية والطائفية) الأمر الذي دفعها إلى الهجرة، أو وقعت تحت طائلة الاعتقال والتعذيب والسجون، أو تغيير قوميتها حتى. لقد كان للعامل السياسي/ الإيديولوجي في ظل النظام (حزب البعث) أثر سلبي في الاندماج الاجتماعي، فقد أنتج نظاما اختزل المجتمع والدولة بشخصية وحزبه وأتخذ قرارات مهلكة أضرت بالدولة والمجتمع العراقي ايما اضرار. وكرد فعل مضاد انصرف المواطن العراقي إلى الاحتماء بالعنوانات الفرعية (قبيلة، عشيرة، مذهب، دين، أقلية، إثنية) بدلا من الانتماء الوطني، فافرغ النظام السياسي السابق مفهوم الوطن والمواطنة من محتواها الحقيقي (علما لا يوجد أصلا مفردة -المواطنة- في قاموس النظام ولا حزبة)(7 )، والحاكم والزعيم الأوحد والمنقذ والبطل لا يحاور ولا يسال. والمرؤوس يطيع، لذلك فان هذا التصور السلطوي وقف حاجزا أمام الحوار(8). وفي ظل انتفاء المساواة تبرز صيغة الأمر بالقسر، وتلك من خصائص الدكتاتورية، كما إن شيوع المفاهيم البدوية والقبلية في العراق يعد متغيرا في نزعة التفرد، فقيم البداوة تنبذ الدولة (العقلانية)، ولكن حين يكون حاملها جزءا من السلطة أو في رأس السلطة، يعمل على إفشاء روح التفرد والزعامة والدكتاتورية لان قيم القبيلة تسكن في ذهنه، وتغيب عنه القيم الحضارية، ولان الحضارة تتميز بوجود دولة المؤسسات، فكانت ظاهرة غياب المؤسسات حاضرة في ذهنية الدكتاتورية، فالفرد العراقي كان واقعا تحت تأثير القيم التقليدية والزعامة القبلية/ السياسية، وكلأهما معوقان أمام طريق تأسيس القيم والثقافة الديمقراطية وبناء الوحدة الوطنية. فعندما تحرم الأقليات من التمتع بحقوقها وحرياتها وتغيب هويتها تلجا إلى الاعتراض والمعارضة أو محاولة الاستقلال/ الانفصال، عن الكل الاجتماعي الوطني(9). ونجد ذلك في ظل الهيمنة المركزية للدولة العراقية، فلم تمنح الحكومات العراقية المتعاقبة الشكل والمضمون القانوني والدستوري والسياسي الحقيقي، في حق الاقليات والإثنيات في التعبير عن هويتها وثقافتها (حتى وان سطرت الدساتير ذلك)، لانها كانت فاقدة للمضمون العملي والتطبيقي، فلم تذكر الا - القومية الكوردية- ففي الدستور العراقي المؤقت لعام 1958 وردت في المادة / الثانية (العرب والاكراد شركاء في هذا الوطن)، وفي دستور 1964/ المادة التاسعة (يقر الدستور الحقوق القومية للاكراد)، وفي دستور 1968/ المادة الخامسة/ ب، (يتكون الشعب العراقي من قوميتين رئيسين هما القومية العربية والكردية ويقر هذا الدستور حقوق الشعب الكردي والحقوق المشروعة للاقليات كافة ضمن الوحدة العراقية، والدستور 1990/ في المادة السادسة/ النص السابق نفسه(10).
غير ان هذه النصوص الدستورية لم تكن تدخل حيز التنفيذ على أرض الواقع، فما معنى الشراكة؟ وهم مواطنو الدولة؟ كما ان النظام السياسي السابق فرض على الاقليات الالتزام بايديولوجية الحزب والدولة، وخطوطها الدعم والانتماء للحزب الحاكم، والمشاركة في التعبئة القومية، وأي تهاون يقع تحت طائلة العقاب الصارم(11).
جدير بالذكر ان "الأقلية" لا تعني الانتقاص من حقوقها وأهمالها، فهم مواطنون كباقي المواطنين، والفارق هو (العدد) فمثلها تتمتع الأغلبية بحقوقها وحرياتها، تتمتع الأقلية أيضا بها.
والحديث عن الطبقة الوسطى متغير مهم في احداث التحول الديمقراطي، فانها كانت غير متجانسة، بسبب ضغوط السلطة ودورها في اضعافها، عبر سيطرتها على الثروة، فجعل منها راضخة ومطواعة، وفاقدة لأي استقلال، فشهدت عملية خلع واسعة صعب تقديرها(12). الأمر الذي منعها من المطالبة بالحقوق والحريات للمجتمع واشاعة روح الوحدة الوطنية.
اذن. هل توجد أمة عراقية؟ وهل توجد وحدة وطنية عراقية؟ هل سقطت جدران العزلة والتمايز بين الاقليات والاثنيات؟ هل نجحت الدولة العراقية على تذويب الفوارق بين الاقليات والاثنيات منذ العهد الملكي وانتهاء بعهد البعث؟
ان عملية تشكيل شعب واحد من هذه الكتل البشرية، التي لا نرى أي نظرة احترام وتقدير لتباينها، هي أولى خطوط تشكيل (أمة متخيلة) بالقسر والاكراه ليس إلا. وبهذا الصدد فقد راى (فالح عبد الجبار) في كتابه (العمامة والافندي): (ان عمليات التوحيد أي بناء الأمة العراقية اتصفت باتباع سياسات دمج قسرية... كانت مرحلة الدمج العنيفة هي التي ميزت عشرينات القرن الماضي وثلاثينياته، فلقد شن الجيش حملات واسعة وحاسمة ضد المتمردين!! الاكراد والاشوريين واليزيدين والقبائل الشيعية في الجنوب)(13) وبطبيعة الحال فان عمليات التوحيد أفضت إلى صناعة دولة قومية سعت دائما إلى عسكرة التجانس بين الاقليات والاثنيات عبر ايديولوجية قومية ذات ملامح خاصة، حاول معها العهد الملكي وسائر العهود التي تلته بنحو أو بآخر، التي كانت أبرز ملامح حدتها العهد البعثي (1968-2003). ولقد كان من ضحايا هذه "الأمة المتخيلة" بدولة قومية، راعية لهذا التخيل هم (شيعة العراق) الذي اقصوا وهمشوا من الحياة السياسية في العهود كافة، على الرغم من كونهم أحدى القوة الرئيسة التي صنعت وقادت ثورة العشرين (1920) ولولاها لما وجدت (الدولة الوطنية العراقية الحديثة). وفي الحقيقة ان ايديولوجية الدولة القومية لم تطل الشيعة فحسب، بل طالت اليهود والكرد والمسيح والاشوريين(14 ).
اذن، اتضح لنا بان الدولة / السلطة السياسية هي المرتكز الرئيس عن شرعنة العنف من جهة، وعن شرعنة النسيان والغفران لاجل الخروج من الذاكرة الموتورة، ومن ثم فان المسؤول عن تطبيق وإدارة (حكمة الاستعراق) التي دعا اليها الكاتب العراقي (ميثم الجنابي) هي الدولة المعاصرة القائمة بعد عام 2003، لانها وضعت بشكل عام القاعدة الرئيسة لهذه الأمور كلها عبر الحكم الديمقراطي. ان اذكاء الصراع والعنف يعود لعاملين، الأول: ضعف روابط المجتمع المدني، أي ضعف المنظمات والتنظيمات المدنية النامية قبل مجيء الدولة الحديثة، والثاني: ضعف الدولة الجديدة والعاجزة عن تطبيق المساواة أمام القانون، وتامين المشاركة الديمقراطية، والحماية من العنف والتمتع بالخدمات لسائر مواطني تلك الدولة بلا تمييز(15 ).
وفي الحقيقة، ان هذين العاملين هما اللذان كانا متحكمين بالمشهد السياسي العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية، ولقد مهدا بشكل منظم وغير معهود لعمليات من النهب المنظم للثروات ولعمليات احتكار السلطة، وقهر وسلب حقوقها، ولطائفة على حساب الاقليات والاثنيات والطوائف العراقية الأُخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر، د. صلاح عبد الرزاق: مشاريع ازالة التمييز الطائفي، المصدر السابق، ص39-76.
(2) ينظر، د. عبد الخالق حسين: الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق، دار ميزوبوتاميا، ط2، 2010، ص174.
(3) للمزيد ينظر، ليث عبد الحسن الزبيدي: ثورة 14 تموز 1958 في العراق، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1979، ص404-405، وأيضا: هاني الفكيكي: اوكار الهزيمة: دار رياض الريس، لندن، 1993، ص213.
(4) نقلا عن د. عبد الخالق حسين: الطائفية السياسية، المصدر السابق، ص186.
(5)ينظر، فرانك جي لنتشز وجون بولي: العولمة (الطوفان أم الإنقاذ) ت/فاضل جكتر، بيروت،2004،ص59.
(6) ينظر، أ.م صبيح عبد المنعم أحمد: الانساق الإثنية وطبيعة البناء الاجتماعي للمجتمع العراقي، في: واقع ومشكلات الاثنيات والاقليات في العراق، بيت الحكمة، ط1، بغداد، 2012، ص45-48.
(7) ينظر، رسل، جيه دالتون: دور المواطن السياسي في الديمقراطيات الغربية، ت/ د. أحمد يعقوب، دار الرشيد، ط1، عمان، 1996، ص99.
(8) ينظر، د. صالح حسن سبع: أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي، (دراسة علمية موثقة)، ط1، القاهرة، 1988، ص438.
(9) ينظر، د. علي الوردي: دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، منشورات سعيد، ط1، قم، 2005، ص27 وأيضا: د. علي الوردي: شخصية الفرد العراقي (بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث)، دار الحوراء، بغداد، 2005، ص45. كذلك: د. عادل عبد الحسين شكاره: نظرية هابهاوس في التنمية الاجتماعية، وتطبيقاتها على بنية المجتمع العشائري في العراق، دار السلام، بغداد، 1974، ص424.
(10) ينظر، المعهد الدولي لحقوق الانسان، الدساتير العراقية (دراسة مقارنة بمعايير الحقوق الدستورية الدولية)، ط1، كلية الحقوق، جامعة دي بول، 2005، ص57.
(11) جوزيف ياكوب: ما بعد الاقليات: ت/ حسين عمر، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 2004، ص181.
(12) ينظر: فالح عبد الجبار: المجتمع المدني والتحول الديمقراطي، مركز ابن خلدون، القاهرة، 1993، ص126.
(13) ينظر، فالح عبد الجبار: العمامة والافندي، (سوسيولوجية خطاب وحركات الاحتجاج الديني) ت/ امجد حسين، منشورات الجمل، ط1، بيروت، 2010، ص86-87.
(14) ينظر، رشيد الخيون، الاديان والمذاهب بالعراق، منشورات الجمل، ط2، بيروت، 2007، ص145-149.
(15) غاريث ستاتفيلد: الانتقال إلى الديمقراطية (الارث التاريخي والهويات الصاعدة والميول الرجعية)، في: (المجتمع العراقي: حفريات سوسيولوجية في الاثنيات والطوائف والطبقات) معهد الدراسات الاستراتيجية، ط1، بيروت، 2006، ص349.