المنبرالحر

الاغتيال اليومي لدجلة الخير / ئاشتي

"1"
تُشيع الطفولة في روحك فرحا من نحاس وماء، فتتذكر تلك الأيام التي تحملك على كفها يوم كنت تنوي أن تتعلم العوم في نهر مدينتك الغافية على ضفته اليسرى، كان الماء يحملك على أجنحة أمواجه بعيدا، فتروح هائما على سطحه وكأنك تملك الدنيا، لا تبحث إلا عن الفرح الذي يصنعه جريان ماء النهر وابتسامة جرفه حين تتعلق بطينها الغريني، وكم من مرة حالفك الحظ في أن لا تكون قربانا له، فما أكثر القرابين التي قدمتها المدينة من أبنائها له بما فيهم امهر السباحين، كنت تظن أن هذا العملاق المتكبر في جريانه هو الأوحد في الكون، وإذ تتعلم الحرف تكتشف أنه ابن متواضع ومطيع لنهر دجلة.
"2"
للنهر في روحك أكثر من معنى، فهو الصباح الذي لا يتوقف عند أصوات النوارس، وهو المساء الذي يجعلك غيمة حزن تنسجم مع أصوات غناء العاشقين السكارى الذين يجعلونه نديما لهم، وهو المدى الذي يخلق بروحك عنفوان التحدي لما تأتي به الأيام، أنه النهر ذلك الكائن الذي يحتوي كل حزنك وفرحك وهمومك في آن واحد، لأنه يحمل بين جناحيه الماء.
"3"
كم من شجرة ترقص على ضفة النهر حين يفيض بحنانه؟ وكم عاشق سحره الحرمان من حبيبته فرمى بنفسه فيه،؟ وكم من أغنية رسم كلماتها شعراء هائمون حبا وصنعوا لهم مراكب من ورق كي تنقلهم مع أمواجه بعيدا؟ (أيها النهر لا تسر، وانتظرني لأتبعك)
"4"
تقول تقارير وزارة البيئة أن أمانة عاصمة بغداد ترمي يوميا مليونا و250 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي في نهر دجلة، ترى كيف يكون شكل الاغتيال اليومي لهذا النهر الخالد؟ دجلة الخير يختنق بكل أصناف القاذورات يوميا والمسؤولون عن هذا الاختناق يبتسمون. دجلة الخير يغص بالبكاء كل مساء على أبناء عراقه الذين سوف تقتلهم هذه القاذورات والمسؤولون فرحون بانجازهم في التخلص من مياه الصرف الصحي. دجلة الخير يخجل من شمس بغداد حين ترى الطير يعاف الشرب من مياهه والمسؤولون في بغداد تبهجهم عفونة مياه الصرف الصحي التي يرمونها في دجلة، هل هناك اغتيال أكثر من هذا الاغتيال لنهر تاريخي عظيم كنهر دجلة؟
"5"
أيها الحالمون
أيها الحاكمون
أيها الطارئون
دجلة رئة بغداد التي تتنفس بها صباح مساء
أرحموا دجلة كي ترحموا بغداد
ارحموا دجلة كي ترحموا ملايين العراقيين الذين يرتوون من دجلة صباح مساء