المنبرالحر

جدلية العلاقة بين السياسة والحق في الحالة العراقية الراهنة / د . فلاح إسماعيل حاجم

إن الحياة المعاصرة للمجتمعات البشرية، مع كل ما تحمله من تنوع وتعقيد وصراع مصالح، بالإضافة إلى ما تفرضه العولمة وثورة الاتصالات من مستجدات وتغييرات، يكون من نتائجها الحتمية تقاطع وتكامل وتشابك الوطني والإقليمي والدولي، تتطلب استخدام منظومة متكاملة من الوسائل والإجراءات لتنظيم العلاقات بالشكل الذي يؤمن تعايشا سلميا ومتجانسا ووضع (صراع الأضداد) في أطر إنسانية حضارية، يكون فيها الإنسان القيمة العليا فعلا. وإزاء ذلك تكون المهمة الأساسية للسياسة والحق تنظيم العلاقات الاجتماعية وإيجاد الظروف المناسبة لتسهيل وظيفة الفرد والمجتمع.
وتمتلك السياسة والحق رابطة عميقة وأزلية وتربطهما علاقة وثيقة بالدولة، التي يكون من بين أهم واجباتها تحديد جوهر السياسة وأولوياتها، وتأمين المستلزمات الضرورية لتنفيذ تلك الأولويات. بالإضافة إلى ذلك فان واحدة من أهم وظائف الدولة هي وضع وتفعيل وتامين قواعد الحق، مستخدمة من أجل تحقيق ذلك خزينا كبيرا من الوسائل اللازمة، بما في ذلك أدوات الإجبار والإكراه.
إن واحدة من أهم مميزات علاقة السياسة بالحق تكمن في أنهما يؤمنان بشكل عقلاني وسليم وثابت المستلزمات الضرورية لمبادئ العلاقة المتبادلة بين المواطنين (الأفراد) والمجتمع، مع ضمان التطبيق الفعلي للحقوق والحريات. أن أيا من مجالات العلاقة النشيطة للسياسة والحق لا تكتفي بما ذكر من نقاط التقاء وتشابك، بل أن كلا الظاهرتين تعتبران مجالين اجتماعيين مستقلين ويمتلكان أدوات وآليات خاصة لتطبيق ما موكل إليهما من وظائف.
وفي محاولة تحديد الأفضل في مجال العلاقة المتبادلة بين السياسة والحق يذهب أغلبية الباحثين إلى منح الأولوية للسياسة. حيث يرى هؤلاء الباحثون أن السياسة ظاهرة اجتماعية معقدة يرتبط جوهرها الأساسي بهدف الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، من أجل تأمين مصالح الطبقة (أو الطبقات) التي يؤدي صراعها إلى خلق الأدوات اللازمة لخوض ذلك الصراع، باعتباره المحرك الرئيسي لإنتاج وإعادة إنتاج السلطات ورموزها وأقطابها الرئيسيين.
إن السياسة، باعتبارها ظاهرة اجتماعية، تقع تحت تأثير عوامل مختلفة، وهي بدورها تنتج ما يمكن أن نطلق عليه التأثير المعاكس على جميع مجالات الحياة الاجتماعية. فالسياسة تقوم بجملة من الوظائف الهامة، يبرز من بينها التنظيم الشامل للحياة الاجتماعية وتنظيم، والرقابة على اسلوب حياة المواطنين وتجمعاتهم، ابتداء من المجاميع والفئات الصغيرة وانتهاء بالطبقات الاجتماعية الكبيرة والشعوب والقوميات، وكذلك تأمين تطور المجتمع من خلال تكامل مختلف المجاميع السكانية وتوحيدها حول المصالح المشتركة والوظائف الشاملة المهمة الأخرى.
إن الطابع الشمولي للسياسة وإمكانية تأثيرها على مختلف جوانب العلاقات الاجتماعية يحدد وضعها الاجتماعي الخاص والمتفرد. غير أن تطبيق السياسة يتطلب تأمين التشريعات الضرورية وسن القوانين المناسبة، التي بمساعدتها تصبح سياسة الدولة قاعدة للحياة الاجتماعية.
بعبارة أخرى أن سلطة الدولة تفقد مبررات وجودها ما لم تسع لصناعة وتفعيل وحماية توأم الدولة ورديفها الأزلي، أي الحق، الذي تلعب قواعده دورا محوريا في تكامل البناء المجتمعي وتعزيز لحمته الداخلية، وذلك من خلال توحيدها (قواعد الحق) للمواطنين وإخضاعهم لمتطلبات وضوابط القانون، وهو بذلك يعيد إنتاج العلاقات القانونية للمجتمع بالشكل الذي يعزز هيمنة الدولة وركنها الأساسي، أي السلطة. فيما تحدد القواعد القانونية منظومة الروابط الاجتماعية وكيفية إدارتها.
وبناء على ما تقدم يمكننا القول بان الرابطة المتبادلة بين السياسة والحق تبرز بالشكل الذي يظهر فيه بأن كليهما ينفذان، إضافة إلى وظائفهما العامة والمشتركة، واجبات خاصة لكل واحد منهما بصورة منفردة. فالحق، على سبيل المثال، يعتبر أداة لتطبيق (تنفيذ) السياسة وتطبيع الحياة الاجتماعية، مستخدما لتنفيذ ذلك قوة الإجبار، التي تنفرد، أو يفترض أن تنفرد، الدولة بامتلاكها.
إن الدور الوظائفي للحق يكمن في أن الأخير يعكس المصالح العامة للأفراد وتطلعاتهم، بالإضافة إلى إرادة الأكثرية في المجتمع، أو إرادة الطبقة السائدة. هذا بالإضافة إلى كونه (الحق) العاكس الأهم لحريات المواطنين وحقوقهم وواجباتهم.
أن التركيبة الداخلية، ووحدة، وآهلية القواعد القانونية تؤمَن بواسطة إجراءات الدولة، بما في ذلك من خلال أساليب الإكراه. وهنا ربما يكون من المناسب الإشارة إلى أن ضعف الدولة، أو غيابها، يودي بالضرورة إلى بروز وسيادة بدائل الدولة، مثل العشيرة والطائفة والعائلة... الخ، مع كل ما يترتب على ذلك من امتلاك تلك البدائل لأساليبها الخاصة، بما في ذلك التي تعتمد على وسائل الإكراه (القوة) أيضا، وهو الأمر الذي شهدنا، ونشهد أكثر فصوله قسوة في العراق وبعض البلدان التي عانت، وما تزال تعاني، من مخاض الولادة العسيرة للأنظمة، التي أريد لها أن تكون بديلا للتوتاليتاريا (الشمولية) البائدة، لتصبح وريثا شرعيا لها.
بالإضافة إلى ذلك فان دخول القواعد القانونية حيز التنفيذ وامتلاكها للقوة القانونية الملزمة يفعَل بفضل صدورها (القواعد) عن الأجهزة المخولة في الدولة وإعلانها الرسمي، الذي يحدد مكان وزمان سريان تلك القواعد، وكذلك الأشخاص، الذين تسري عليهم.
وإذا كان للدولة والحق الدور الحاسم في ترتيب وإعادة ترتيب الأولويات بالنسبة للسياسة والحق، فان دورا لا يقل أهمية يلعبه تنفيذ الواجبات الملقاة على عاتق المواطنين، ذلك أن من شأن عدم تنفيذ تلك الالتزامات أن يكون عاملا وسببا في تشويه، وربما تحطيم منظومة الحق السائدة في المجتمع، باعتبار أن الالتزامات، ومن ضمنها تلك التي تقع على عاتق المواطنين، تشكل نواة السياسة القانونية للدولة. حتى أن الكثير من فقهاء القانون يرون أن الدور الأساسي في العلاقة بين السياسة والحق يعود إلى الالتزامات القانونية للمواطنين.
ويعتبر تنفيذ السياسة القانونية للدولة مقدمة هامة لتشكيل وتطور دولة الحق. فالسياسة القانونية تشكل الجزء الأهم والأساسي لتلك الدولة، ذلك أنها موجهة لتأمين حقوق المواطنين وحرياتهم، بالإضافة إلى كونها أحد مستلزمات حفظ النظام والدفاع عن الأمن المجتمعي.
ونحن بصدد الحديث عن العلاقة المتبادلة بين السياسة والحق أجد مناسبا الإشارة إلى أن السياسة القانونية للدولة تعتبر مجالا هاما لبناء وتفعيل وتطوير وصيانة العلاقة المتبادلة بين مختلف المؤسسات الاجتماعية، وأطراف السياسة، سواء تلك التي تشترك فيما يسمى بالعملية السياسية، أو تلك التي تؤلف الطرف الذي لا يقل أهمية وتأثيرا عن الأولى، ونقصد المعارضة السياسية، التي ينبغي أن يكون من بين أهم واجباتها مراقبة الأداء الوظيفي لأجهزة الدولة والضغط لتقويمه، مع كل ما يتطلبه ذلك من تنظيم للمجتمع وإيجاد وتفعيل الآليات الضرورية (منظمات المجتمع المدني) وقيادة الأنشطة الاجتماعية المختلفة، فيما ينبغي على الدولة اشتراك تلك الأطراف والمؤسسات المجتمعية، في النشاط التشريعي، والاستفادة من طاقاتها من أجل تلبية متطلبات المجتمع وتأمين حاجاته الأساسية.
إن السياسة القانونية للدولة تتضمن، إضافة إلى التشريع وصناعة القواعد القانونية الناظمة للعلاقات الاجتماعية، عناصر لا تقل أهمية، مثل تطبيق القانون وتطوير الوعي القانوني وإشاعة الثقافة القانونية بين المواطنين.
ومن بين الوظائف الأساسية للسياسة القانونية يمكن فرز التالي:
*تحديد أنماط العلاقات الاجتماعية التي تتطلب التنظيم القانوني؛
*تحديد وتطبيق وسائل التنظيم القانوني لتلك الأنماط؛
*التخطيط، وتأمين تنفيذ التوجهات الأساسية للنشاط التشريعي الآني والمستقبلي (الاستراتيجي)؛
استنباط المنظومات المناسبة والضرورية لتنظيم النشاط التشريعي والتطبيقي لأجهزة الدولة؛
*تحديد الأشكال الرئيسية وأساليب تربية المواطنين بالشكل الذي يعزز مكانة القانون في المجتمع وإشاعة الثقافة القانونية.
ويبدو مفيدا أثناء الحديث عن العلاقة الجدلية بين السياسة والحق الإشارة إلى أن المجتمع العراقي يعيش في الوقت الراهن ظروفا بالغة التعقيد، هي نتيجة منطقية لعقود طويلة من حكم شمولي سعى إلى تشويه الحق وإقحام قواعده في خدمة تلك السياسة الشمولية القمعية، فيما أصبح الحزب، ليس فقط رديفا للدولة، بل بديلا عنها، وكانت قرارات الحزب تمتلك قوة قانونية ملزمة، الأمر الذي كانت نتيجته المنطقية ضعف دور أجهزة الدولة وجعلها ملحقات خلفية لمنظمات الحزب وأدواته القمعية. ولم يزد احتلال البلاد من قبل القوات الأجنبية الحالة العراقية إلا تعقيدا، حيث عمدت سلطة الاحتلال إلى تدمير الدعائم الأساسية التي قامت عليها الدولة العراقية منذ تأسيسها، والتي كان من الممكن التأسيس عليها لبناء دولة مؤسسات عصرية، يأخذ فيها الحق مكانه الطبيعي، كتوأم للدولة وسند لها. غير أن حل واحدة من أهم منظومات الدولة، وهي منظومة الأمن والدفاع، في بلد احتلت فيه تلك المنظومة واحدة من أكبر المؤسسات، ادخل البلاد في متاهة الفوضى، التي ما يزال المجتمع العراقي يحصد نتائجها الكارثية. وربما يقف في مقدمة تلك النتائج تشتت المنظومة الدفاعية - الأمنية وإخضاعها لمقاييس المحاصصة الأثنية (القومية والطائفية والحزبية...الخ) الأمر الذي انعكس أيضا على منظومة التشريع الوطني، التي تعاني هي الأخرى من تنازع بالغ الوضوح بين قواعد التشريعات، بمختلف مستوياتها، فيما شكل الانتقال من شكل الدولة البسيط إلى الفيدرالي معضلة أخرى تزيد التنازع بين قواعد التشريعات المتخذة من قبل السلطات الاتحادية مع تلك التي تعتمد من قبل سلطات الإقليم، مع كل ما ينتج عن ذلك من إشكالات في مجال العلاقة بين المركز الفيدرالي والإقليم، والتي لا اعتقد أن هنالك ضرورة للإشارة إليها هنا. من هنا يبدو ضروريا، وملحا أيضا، إصلاح النظام القانوني في العراق بالشكل الذي يتناسب مع الواقع الجديد والعمل على إزالة التنازع بين قواعد التشريعات المختلفة، مع إيجاد البديل المناسب. وربما كان تعديل الدستور واحدة من المهمات الأكثر إلحاحا في الحالة العراقية الراهنة. وهنا لابد من التذكير بالرأي الذي طالما طرحه كاتب المقال والذي يتلخص في أنه كان من الممكن أن يشكل قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية، الذي أقر إبان فترة مجلس الحكم الانتقالي، أساسا جيدا لدستور عصري يؤسس لدولة مدنية جامعة وعابرة للانتماءات الأثنية.
عند الحديث عن ضرورة إصلاح النظام القانوني العراقي في الفترة الراهنة لابد من التأكيد على أنه في الوقت الذي يثبت فيه الدستور الساري مبدأ علوية القانون تحتفظ المنظومة التشريعية العراقية بسمة سيادة التشريع الثانوي. فالكثير من الإجراءات، بما في ذلك في مجال إعادة البناء، ومعالجة آثار الحكم التوتاليتاري القمعي، وميدان الضمان الاجتماعي، تتم استنادا إلى قرارات وتوجيهات، عادة ما تحمل صفة الارتجال ولا تستند إلى أي قانون (أساسي أو رئيسي)، الأمر الذي يخلق حالة من التنازع بين الوثائق الرسمية الصادرة عن مؤسسات حكومية قد تكون مساهمة في معالجة مسألة واحدة.
عند الحديث عن إصلاح النظام القانوني في العراق ربما يكون من الضروري التذكير بأنه مع إعلان العراق (دولة اتحادية واحدة مستقلة، ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي..) كما جاء في المادة الأولى من الدستور، التي أقرت أيضا أن الدستور (ضامن لوحدة العراق) فان المشرع العراقي حاول وضع أسس الدولة الديمقراطية الوليدة وحدد أولويات السياسة الداخلية والخارجية للدولة، التي يعتبر من أهم وظائفها العاجلة التطبيق غير المشروط للقواعد الدستورية والقوانين السارية الأخرى. غير أن صراع المصالح وتغليب المصالح الآنية والفئوية على المصلحة الوطنية العليا، وانتهاج سياسة المحاصصة الأثنية في تشكيل مؤسسات الدولة، مع التأخر في تشريع وتفعيل القوانين الرئيسية (المكملة للدستور)، بالاضافة إلى قصور الدستور ذاته ووضع قواعده بالشكل الذي يجعلها تحتمل القراءات المختلفة، في وقت أحوج ما تكون فيه المرحلة الانتقالية التي يعيشها بلدنا إلى وضوح وصرامة القواعد المنظمة للعلاقات الاجتماعية، وخصوصا تلك التي تكون الدولة طرفا أساسيا فيها، جعل من مهمة تنفيذ المادة الدستورية المذكورة أمرا بالغ الصعوبة وأجهض إمكانية إمتلاك منظومة للسياسة والحق قادرة على التفاعل الايجابي والإنتقال بالبلاد إلى مراحل متقدمة يكون فيها الإنسان، بغض النظر عن انتمائه القومي والديني والمذهبي والقبائلي ولون بشرته، القيمة العليا، التي أكدت عليها جميع الشرائع، السماوية والوضعية.
إن تدني منزلة دستور دولتنا إلى المستوى الذي هو عليه الآن لا يقلل فقط من قيمته كوثيقة قانونية ينبغي أن تحتل المكانة الأرفع في سلم مصادر الحق، بل ويفسح المجال أيضا للتنصل من الالتزامات والمسؤوليات التي تضعها تلك الوثيقة، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى الاخلال بكامل النسيج المجتمعي ويعزز مواقع قواعد السياسة على حساب قواعد الحق، وهو ما سيجعل من امكانية بناء دولة الحق والمؤسسات أمرا بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلا. هذا ناهيك عن كون تعاظم دور القاعدة السياسية على حساب نظيرتها القانونية يتيح المجال لاتخاذ القرارات، بما في ذلك المصيرية منها، وتلك التي تخصص بناء مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية، في اطار ما بات يطلق عليه مبدأ التوافق بين الكتل السياسية، أي اعتماد اسلوب المحاصصة في توزيع المناصب الحكومية، بما في ذلك الدرجات الخاصة، مع كل ما يترتب على ذلك من تراجع في دور المؤسسات الرقابية، ومنها البرلمان، وخرق لمبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ الآهلية في توزيع المناصب، وكذلك يسيء إلى مبدأ علوية وأولوية قواعد الحق.
إنني أرى أن إصلاحا شاملا لمنظومة الحق في بلدنا يكتسب أهمية استثنائية في الوقت الراهن، حيث تعيش الدولة ظروفا بالغة التعقيد، هي نتيجة منطقية لعقود من سيادة النظام الشمولي القمعي، اعقبتها فترة الاحتلال الأجنبي، التي يستوجب للتخلص من اثارها القيام بعمل هائل ومثابر، ربما يقف في المقدمة منه ترميم منظومة اجهزة الدولة ووضع حد لاسلوب المحاصصة في تشكيل تلك الأجهزة، بالاضافة إلى بناء منظومة التشريع بالشكل الذي يجعل قواعد الحق منظما للحالة السياسية وليس تابعا لها، والعمل على انهاء حالة التنازع السائدة بين مختلف التشريعات (الاساسي والرئيس والعادي)، وهي الخطوات التي لا يمكن بدونها الانطلاق لبناء دولة الحق والمؤسسات المرتقبة.