المنبرالحر

صدام.. وصداميون جدد / عبد المنعم الأعسم

ثمة سؤال استباقي مشروع عما يجعلنا، نحن معارضو وضحايا صدام حسين وبطشه، في حالة من الاستثارة والاستياء والضيق كلما صادفتنا، الآن، واحدة من ممارساته متمثلة في ممارسة المسؤول الجديد للدولة الذي يُفترض انه حل بديلا عن تلك المرحلة السوداء في تاريخ العراق.
في هذا ثمة تفسيرات في العلوم الاجتماعية والنفسية، واحدة منها ذلك التفسير البالي التقليدي عن محاولات الضحية تقليد جلاده على نحو ايحائي غير مقصود، وعن اعجابه الخفي بجبروت ذلك الجلاد، فيما نكتشف ان المسؤول الجديد "الصدامي" يقتفي سلوك الدكتاتور عن سابق قناعة بان الاستعلاء على الشعب من فروض الادارة الضرورية، وان زجر واذلال هذا الشعب مبررة لسوء استجابته للقوانين والاحكام، متناسيا ان القوانين والاحكام لم تنتهك من أحد قبل أن ينتهكها مسؤولون من مستويات مختلفة.
**********
أشفقُ على"المسؤول" الذي يذكّرني بصدام حسين، سلوكا وكلاما وتعاملا مع الوظيفة والجمهور، واشعر بالغثيان حين يتحدث ذلك المسؤول عن المظالم التي لحقته شخصيا جراء معارضته لصدام حسين، والتضحيات التي قدمها دفاعا عن العدالة التي كانت منتهكة، والضحايا الذين سقطوا من عائلته على يد سلطات ذلك العهد، وغدا كل ذلك حشوة من السخط ومثار للاستفزاز في وجداني، بل صرتُ أهزأ من تكرار القول ان ابن خلدون رصد كيف يحاول الضحية ان يتمثل سلوك جلاده، فان للكثير من الجلادين والطغاة فضائل (ولو صغيرة) مسجلة لهم مثل الظهور بمظهر "المبتسم السعيد" فلماذا لا يتمثل اصحابنا المسؤولون هذه الفضيلة، على الأقل.
لا يعنيني الآن اجراء المقارنة، او المماثلة، أو التشبيه بين مسؤولنا الجديد والنموذج الصدامي البغيض، انما يعنيني حالي، وحال جيل من ابناء قضية الحرية، نحن الذين كنا ضحايا "مسؤول قديم" أدار طاحونة الإذلال والعنجهية والجور في دمائنا، و"مسؤول جديد" يدير تلك الطاحونة عن قصد او من دونه، وأحسب انه لولا جبروت حكم ورعونة صدام حسين، وما ترسب منها في ذاكرتنا وحافظة عذاباتنا، ما كنا نُستثار الآن من صورة المسؤول الذي تقطع الشوارع، ويزجر المارة، لتأمين مروره سالما الى مكتبه المحصّن أو الى احضان عائلته التي تقيم في ما يشبه الثكنة العسكرية.
من زاوية، يبدو ان استمرار الحضور الاستفزازي لصورة صدام حسين في وجداننا، وضيقنا من كل ما يذكرنا به ذو صلة ما بما يسمى بالمنعكس اللاشرطي الذي اطلقه العالم البايولوجي الروسي إيفان بافلوف في القرن التاسع عشر، ويقوم على رصد تفاعل الانسان، والحيوان أيضا، مع التأثيرات العميقة المديدة الموروثة واستمرار هذا التفاعل برغم غياب المؤثِر، وكانت تجارب بافلوف على الفئران والكلاب في غاية الاهمية في تحول المنعكس الشرطي (مظالم صدام مثلا) بالتكرار لسنوات طويلة الى منعكس لا شرطي حيث يثير غضب الضحية حالما تبدو له المظالم مرة اخرى.
**********
يروي رسول حمزاتوف ان أبناء قريته في اقاصي داغستان كانوا قد هجروا نبعا من الماء شهد قبل عقود، مذبحة لعشرين من نسائهم، وكان الجيل الثالث من ابنائهم يرتعبون ذعرا كلما مروا بالنبع، وكثير منهم يضطرون للمشي يومين بدل ان يسلكوا الطريق عبر النبع مخافة ان يتذكروا بشاعة المجزرة.
كيف لنا ان نهرب من هؤلاء الذين يذكّروننا بصدام حسين، وهم يقتحمون علينا منازلنا عبر الشاشات الملونة، على مدار الساعة؟.
**********
"الأفعال الفاضلة تسر من يحب الفضيلة".
ارسطو