المنبرالحر

معضلة الإدراك (4 -5) / د. جواد بشارة

كنت في محاضرة علمية فطرح علي أحد الحضور سؤالا يصلح أن يكون مدخلا لهذه المادة: لماذا لا يمكننا الجمع والتوحيد بين نظرية النسبية لآينشتينrelativité générale d'Einstein وفيزياء الكوانتوم أو الكموم la physique quantique أو الميكانيك الكوانتي أو الكمومي Mécanique quantiqueوهي النظرية التي لها عدة آباء من بينهم آينشتين نفسه وماكس بلانك وبور وهيزنبيرغ وشرودينغر وريشارد فينمان وفولفغانغ باولي وعشرات غيرهم، بغية العثور على نظرية واحدة جامعة وشاملة وموحدة تقدم لنا الإجابات على كافة تساؤلاتنا عن الكون والطبيعة والحياة؟ في الحقيقة هاتان النظريتان تشكلان اليوم الأعمدة الرئيسة التي تستند عليها الفيزياء المعاصرة وما يرتبط بها من علوم وتكنولوجيا. اشتغل العلماء لسنوات طويلة، منذ بداية القرن المنصرم العشرين ولغاية منتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، على هذا المشروع التوحيدي الذي كان حلم آينشتاين نفسه، ولكن لم ينجح أي منهم في مسعاه لغاية اليوم، فما زلنا نواجه نفس المشاكل والعقبات حتى بعد اكتشاف بوزون هيغز قبل أشهر والذي كان من المفترض أن يسهم في تسهيل التوصل الى النظرية الموحدة المسماة نظرية كل شيء. فمن جهة لدينا ميكانيك الكم أو الكوانتا، وهو عبارة عن مجموعة من النظريات والفرضيات العلمية التي طورتها الفيزياء لا سيما فيزياء الجسيمات، منذ بداية العام 1900 وعلي يد هؤلاء الفطاحل المذكورين أعلاه، ومجال عملها ينصب في اللامتناهي في الصغر أي الذرة فما دون، والتفاعلات بين الذرات والجسيمات الأصغر والأدق المكونة للذرات والتي قدمت وصفاً علمياً دقيقاً لعالم الجسيمات والتموجات الفوضوية في الفراغ الكوانتي التي لايمكن للفيزياء الكلاسيكية القيام بها على الاطلاق.
ومن جهة أخرى لدينا نسبية آينشتين العامة Einstein et la relativité générale التي تتعامل مع اللا متناهي في الكبر على صعيد الكون كله من الذرة فما فوق وصولا الى المجرات والنجوم وبقية مكونات الكون المرئي.
من إضافات آينشتين الجوهرية للفيزياء الكلاسيكية أنه أثبت أن الزمان والمكان لديهما بعد موحد ونسيج واحد ووجهان لحقيقة واحدة ولهما صيغة واحدة هي الزمكان" espace-temps " ، حيث يمكن أن يتحول الزمان الى مكان والعكس صحيح في ظروف محددة وشروط خاصة، ثم غير مفهومنا عن ثقالة أو جاذبية نيوتن من خلال مفهوم الحقل الثقالي الذي يؤثر على نسيج الزمكان ويتحكم بمدارات الأجسام الفضائية ومن هنا نشأت مشاكل تتعلق بنظرية الحقل الموحد la théorie du champ unifié وطبيعة القوى الكونية الجوهرية الأربع. وصف ميكانيك الكموم أو الكوانتوم ثلاث قوى كونية جوهرية هي القوة النووية الشديدة التي تعمل على تماسك مكونات الذرة، والقوة النووية الضعيفة، المسؤولة عن النشاط الاشعاعي la désintégration radioactive و القوة الثالثة وهي الكهرومغناطيسية l' électromagnétique التي تعمل في نطاق الظواهر والشحنات الكهربائية والمغناطيسية وحقولهما من الالكترون الى أي شيء موجود في الكون المرئي. لكن ميكانيك الكموم لم ينجح في التعامل مع القوة الكونية الجوهرية الرابعة وهي الثقالة أو الجاذبية la gravité التي نجحت النسبية في التعامل معها ووصفها خاصة في مجال الثقوب السوداء. والحال أن النسبية لا تتعاون مع الميكانيك الكوانتي أو الكمومي حيث نجح هذا الأخير في توحيد القوى الجوهرية الثلاث وفشل في ضم القوة الرابعة أي الثقالة التي لم يعرف أحد كيف تعمل الى ان يتم اكتشاف جسيم الغرافيتون graviton المفترض باعتباره الحامل للثقالة كما هو حال الفوتون بالنسبة للقوة الكهرومغناطيسية. والحال أن العلماء يحاولون بلا جدوى العثور على نظرية كمومية أو كوانتية للثقالة أو الجاذبية une théorie quantique de la gravitation قد تكون هي الحل أو الخطوة الضرورية نحو دمج النسبية بالكوانتية. ويستخدم العلماء مسرعات ومصادمات الجسيمات العملاقة لهذه الغاية مع تكثيف وتعميق دراسة وكشف أسرار الثقوب السوداء les trous noirs لأنها تمتلك جاذبية أو ثقالة لا متناهية مع حجم لا متناهي في الصغر، بالطبع هناك ثقوب سوداء عملاقة ولكن هناك تفسيرا آخر لهذا النوع من الثقوب السوداء، ويسود تفاؤل بين العلماء بأنهم سوف يتوصلون يوما ما الى هذه النظرية الموحدة أو نظرية كل شيء.
من الصعب علينا تكوين صورة واضحة لظاهرة كمومية أو كوانتية لأن تصوراتنا محكومة بالعالم الماكروسكوبي الكبير الذي نعيش فيه ونستمد منه مفاهيمنا ومعارفنا وتصوراتنا في حين أن مداركنا تغدو شبه مستحيلة في العالم الميكروسكوبي ما دون الذري لأننا نفتقد للصور المألوفة لدينا لذلك صرح ريشارد فينمان بعبارته الشهيرة: "أعتقد أنني أستطيع المخاطرة بالقول أنه لا يوجد شخص يمكنه أن يفهم الميكانيك الكمومي أو الكوانتي".
من هنا صار لهذه النظرية الغرائبية عدة تفسيرات وكل تفسير منها حاول أن يقدم صورة ذهنية image mentale تتيح للفيزيائيين التعاطي مع الظواهر الكمومية أو الكوانتية باستخدام حدسهم بدلا من اللجوء الى شكلانية رياضياتية formalisme mathématique غالبا ما تكون تجريدية يصعب فهمها، إن لم نقل يستحيل، من قبل العامة. ومن أشهر هذه التفسيرات تفسير كوبنهاغن interprétation de Copenhague التقليدي المتشدد والذي دافع عنه ورعاه بور وهيزنبيرغ. ففي عام 1927 قدم العالم الدنماركي نيلز بور رؤيته للنظرية الكوانتية أو الكمومية في مؤتمر علمي وكانت عبارة عن حصيلة جمع لأفكار قادت الى تأسيس هذا الفرع من علم الفيزياء حيث أن فيزياء الكموم أو الكوانتوم كانت تمتلك حتى في تلك الفترة المبكرة شكلانيتها الرياضياتية ومعدلاتها القوية والفعالة التي نجحت في توصيف وتفسير الكثير من الظواهر الفيزيائية التي عجزت الفيزياء الكلاسيكية عن فهمها وتفسيرها مثل الجسم الأسود corps noir والتأثير الكهروضوئي effet photoélectrique وتركيبة الذرة compositin de l Atome الخ..
يتبع