المنبرالحر

معضلة الإدراك (5-5) / د. جواد بشارة

إلى جانب الصيغ الرياضياتية الصارمة، كان الميكانيك الكمومي أو الكوانتي يمتلك مسلمتين أساسيتين، أشهرهما هي معادلة شرودينغر léquation de Schrödinger التي سنتطرق إليها بتفصيل أكبر لاحقاً، وهي خطية ومتصلة linéaire et continue وهما خصلتان جوهريتان لها، فالصفة الخطوطية تعني أنه إذا كان نظامان يشكلان حلا لمعادلة شرودينغر، فإن أي جمع بين النظامين سيكون هو الآخر حلاً. أما خاصية الاتصال فينطوي عليها أنه بغياب الاضطرابات والمؤثرات الخارجية فإن النظام يبقى دوماً في الحالة التي وصفتها له المعادلة.. وإن التطبيق الدقيق والصارم لهذين المبدأين يقود الى مفارقات اشهرها مفارقة قطة شرودينغر الحية والميتة في آن واحد. الى جانب أن الاستمرارية تعني أنه لا يوجد شيء يمكن أن يحطم هذه السلسلة من التركيبات التي يمكن أن تمتد إلى ما لا نهاية. ولو اكتفينا بمعادلة شرودينغر فلن نحصل على نتيجة واحدة لأي قياس نقوم به بل سنحصل على جملة من النتائج الممكنة والمحتملة. ولتجاوز أو تخطي هذه الصعوبة أعد التفسير الأورثوذوكسي مسلمة قياس وهي مجرد مسلمة لم تثبت مختبرياً وتتمثل باختيار على نحو احتمالي لممكن معين من بين عدد من الممكنات الناجمة عن قياس معين والمتواجدة أو المتعايشة معاً فالحدث الذي يجري عليه القياس يظهر بدون أي تبرير فيزيائي ويضع نهاية لــ الاستمرارية اللانهائية التي توقعتها معادلة شرودينغر وتسمى هذه الظاهرة في علم الفيزياء الكوانتية بانهيار دالة الموجة effondrement de la fonction donde . وفي نفس تلك الحقبة الزمنية اقترح العالم بور وعدد من زملائه واتباعه مجموعة مبادئ موجهة ضمن التفسير الأورثوذوكسي ومن اشهرها مبدأ التكامل principe de complémentarité ومبدأ الريبة أو اللايقين principe dincertitude ومبدأ التوافق أو التطابق principe de correspondance. كان مبدأ التكامل الذي اقترحه بور غير واضح وغائم في صيغته ويتلخص بأنه عند وصف ظاهرة فيزيائية ما يمكننا اللجوء الى عناصر اللغة المناهضة أو المناوئة لها وأوضح مثال لمبدأ التكامل هو صفة الثنوية الجسيمية الموجية la dualité onde-corpuscule حيث اتضح لنا في بعض التجارب أن الفوتونات تتصرف كما لو كانت موجات في حين أن نفس هذه الفوتونات في تجارب أخرى تتصرف كما لو كانت جزيئات، وهذان الوجهان مكملان لبعضهما البعض كما يقول بور. كما يمكن تفسير مبدأ الريبة أو اللا يقين لهيزنبيرغ على هذا النحو كذلك فعند تطبيقه على كينونة ما، لقياس وتعيين موقعها وسرعتها او اندفاعها، يعلن لنا هذا المبدأ بأننا لا يمكن أن نعرف على وجه الدقة وفي آن واحد معرفة السرعة والموقع فهما متزاوجان أو مترافقان ومكملان لبعضهما، في حين أن مبدأ التطابق والتوافق يقول أننا يجب أن نرى في الفيزياء الكمومية أو الكوانتية نوع من التعميم والتصويب للفيزياء الكلاسيكية وهو المبدأ الذي يطرح مسألة الحدود بين العالم الماكروسكوبي والعالم الميكروسكوبي. فلو تقبلنا حقيقة أن أي جسم ماكروسكوبي مكون من جسيمات أولية كالذرات والجزيئات والالكترونات الخ ، فلماذا لا يتصرف هذا الجسم بنفس غرابة تصرف الجسيمات مادون الذرية في الفيزياء الكمومية أو الكوانتية؟ ففي أية حدود يتوقف الجسم على أن يكون ماكروسكوبيا ويدخل في الحيز الميكروسكوبي؟ لم يكن بور يمتلك إجابة على هذا التساؤل والحدود كانت غامضة آنذاك. ولقد قدمت نظرية اللا تماسك أو اللا ترابط المنطقي théorie de la décohérence التي اكتشفت في السبعينات من القرن الماضي إجابة أولية على هذا التساؤل عندما أدخلت عامل المحيط لتفسير غياب التفاعل الكمومي أو الكوانتي linexistence dinterférence quantique من نوع قطة شرودينغر على مستوى الأشياء أو الأجسام الماكروسكوبية وبالرغم من النجاحات في مجال التوقعات والتكهنات إلا أن تفسير كوبنهاغن تعرض للنقد الشديد من قبل آينشتين وشرودينغر ذاته مع ان هذا الأخير هو من الإباء المؤسسين للفيزياء الكمومية أو الكوانتية. وذلك بسبب مقاربته الاحتمالية approche probabiliste ولأنه لم يتبن أطروحة الطعن بالواقع الفيزيائي المستقل عن الراصد أو المراقب وتأثير هذا الأخير في دقة نتائج عملية القياس أو الرصد. وبالرغم من النقاشات الحادة لم يتفق العالمان آينشتين وبور بهذا الخصوص. منذ خمسينات القرن المنصرم خرجت تفسيرات أخرى من أشهرها تفسير العالم الفيزيائي دافيد بوم الذي استخدم تفسير موجات المادة الذي اقترحه العالم الفرنسي لوي دي بروجلي سنة 1924 وقام دافيد بوم في نظريته بعملية تصالح بين الموجات والجزئيات اللتين يفصل بينهما مبدأ التكاملية في تفسير أو مدرسة كوبنهاغن . ففي رؤية بوم تكون الموجة عبارة عن موجة قائدة onde pilote وتتواجد او تتعايش في الفضاء مع الجزيء وتوجهه في مساره. والشيء المفهومي الجديد في هذا التفسير هو أن الموجة وموضع الجزيء يكتسبان واقعاً فيزيائياً réalité physique بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح. ومن هنا فإن مسار الجزيء المتأثر بحقل حقيقي خلقته الموجة، يمكن مراقبته أو رصده، وبالتالي فإن المسارات لن تكون مستقيمة rectilignes بل يمكن أن يتقوس أو تنبعج sincurver وبذلك تمكن بوم من تفسير ظواهر التفاعل الكمومية أو الكوانتية من نوع شقي يونغ التي سنتحدث عنها لاحقاً ايضاً. ولو تفاعلت موجات المادة فبالمقابل ستقوم بتعديل مسارات الجزيئات لكي ترسم شكلاً للتفاعل يظهر على شاشة الرصد والمراقبة والقياس. ومن مزايا تفسير بوم أنه أضفى طابعاً كلاسيكياً للظواهر الكمومية أو الكوانتية، بالرغم من خلقها لصعوبات في التعامل مع بعض المشاكل المرتبطة بنسبية آينشتين. اهتمت تفسيرات أخرى بتعديل معادلة شرودينغر لإدخال صيغة تكون مسؤولة عن انهيار دالة الموجة لكنها في نفس الوقت أدخلت سيرورات عشوائية خلقت مشاكل رياضياتية جديدة. وهناك من بين التفسيرات العديدة تفسير إيفريت الذي قدمه سنة 1957 وحمل إسم نظرية العوالم المتعددة théorie des mondes multiples التي سنتناولها في الحلقات القادمة، فايفريت لا يهتم بالتكاملية في مسلمة القياس مع معادلة شرودينغر بل يلغيها كلياً, فحسب نظريته، إن جميع النتائج الممكنة لقياس معطى معين تنتج بالفعل ويجب أن تؤخذ بالاعتبار ، وبالمقابل، وفي الشجرة الواقعية لكافة النتائج الممكنة للقياس، فإن ذاكرة المراقب أو الراصد، لا تحتفظ سوى بغصن واحد من هذه الشجرة، وهو الغصن الذي ينتمي للعالم الذي يعيه. أما باقي الأغصان فتنتمي حسب ايفريت، لعوالم أخرى، لايمكننا معرفتها أو إدراكها ناهيك عن الولوج إليها، ففي مثال قطة شوردينغر، فهي بالفعل حية وميتة في آن واحد ولكن في عالمين مختلفين ومتميزين عن بعضهما ومتوازيين، وهو التفسير الذي بات مقبولا من قبل الكثير من علماء الكوزمولوجيا المعاصرين لأنه يقدم لهم تفسيرات ملموسة.