المنبرالحر

متوشحا بالمجد مضى الزعيم / مزاحم حسين

تركوك عاريا ، رباه ، ألا ليتهم تركوك !
وهذا الرداء أيضا ، ليتهم حرموك إياه
بنفسك كسَوْكَ كما بأفخر ثوب
إذ فتحوا الخزانة الأرجوانية في جنبك
لم يكن يوما ثمة ثوب يستحق حسنا
أن ترتديه ، سوى هذا المصنوع من دمك .
في 8 / 2 / 1963 تكالبت قوى الشر والظلام وأغتالت أمل الشعب العراقي بثورته العظيمة وهنا ترجل زعيم الفقراء عن صهوة جواده وانتهت الطقوس الجنائزية ، مضى يحث الخطى نحو المدينة الأولية وعروقه مترعة بالحنين . عائدا إلى مأواه الأزلي الأول على الساحل اللامادي حيث تزبد الأمواه الأولى متهاوية تلعق قدميه وتغسله نحو السكينة والاطمئنان، ويسود النور داره الموحشة وعميقا مع أسلافه العظام يرقد زعيم الفقراء عبد الكريم قاسم متسربلا بأصدقائه الطوال بدءاً من الشهداء والثوار وانتهاء بالمصلحين بحبات لاتدركها الشيخوخة .كان موته المأساوي وشهادته التي أرجفت وأخافت الظالمين وعمر حكومته الثورية الإصلاحية القصيرة الأجل سببا لتظاهرة ألم فريدة لم تُعرف مثلها في تاريخ العراق الحديث .إن موت زعيم الفقراء ومحبوبهم وحامل لوائهم وراعي بيتهم أحدث جرحا نفسيا وسبّب للكثير من العراقيين إغراقا مخيفا في الهذر والعرافة . فلقد تغلغل حبه في الجمهور وجعل الكثير منهم ينصهرون ذهنا واحدا . فلقد كان قريبا منهم يتوجع لمواجعهم وآلامهم فهو واحد منهم يعيش كما يعيشون . هذا الذي كان مشرقا في حياته الملائكية . كان يخفف من عبثية حال الإنسان العقلاني في ظل ظروف لاعقلانية عاشها الكثير من أبناء العراق آنذاك . إنه المشاهد الرحيم الذي يبكي لحالة الإنسان العراقي فهو المهندس ، الصانع ، كبش الضحية ، حامل الأحزان ، وهو الجالس على قمة التل يبكي وكلما رأى خارج الكينونة التي تدعى بلده أحد عوالمه يسقط ميتا ، وكلما بكى انهمر النور ودموعه معا ، وإذ يبكي تظلم بلاد السماء فجأة وتنطفئ الشموع ومواطنو السماء يقرفصون جميعا معا تحت شجيرات الطرق يتساءلون : أيُّ دار من دورهم السابحة قد انقضى إلى الأبد وهنا تقتل الأرض نفسه فهي ذاوية مشظّاة والجنون قد عنفها وفجرها وبصوته الذي لا يُحتوى وهو أشبه بريحٍ تتصاعد جاءت نبرات نشيده وئيدةً ثم تصاعدت قوةً كما الريح ،راحت في أنةٍ طويلة عنيفة فوق الرؤوس إلى الأماكن التي لا تدرك ،الصوت الإنساني الذي دخلها استوعبه النشيد ، كان النشيد حيث لا يدركه الجوق . كان صوته يأتي من برية ضائعة لان يجد ثمة قلقاً أميناً للأطفال الذين حُجروا عن الشمس ويتضرع للمخلص الموعود أن يسمع النبرة الذهبية تتحول إلى مسار . كان يستلقي في قبعات النور ويعتمر النقاء بقبةٍ ، ويُسمع المجد في محراب دموعه . كان العراقيون قد تحدثوا عن قاسم الذي غدا أول زعيم شعبي وقديس معا في عصر يفترض أن القديسين يولدون من رحم العباءة الدينية وكان الجميع ينظرون إلى قاسم كآخر القديسين وحامي الفقراء وعندما مات بدا كأن العراق لن يعرف العدل مرة أخرى أو هذا ما خُيّل إلى الجميع في حزن جنازته التي استمرت سنيناً طوالاً سرا في نفوس أغلب العراقيين ( وهذا ما حصل فعلا ) تلك الجنازة التي كشخصية الزعيم الشعبية تحولت إلى حزن وأمل في آن واحد فلقد تبدت صورة الزعيم في صفحة القمر كما كان يقول العراقيون أملا في عودة زعيمهم المخلص . فلقد غدت سفرات الزعيم وجولاته والتصاقه بالناس ودفاعه عن الفقراء جزءاً من أسطورته وهو أول من قدّمَ نفسه ضحيةً عامة لا خاصة ومن هنا نفحة الضحية النافذة في شخصيته ، ذلك الصوت الذي لا يُحتوى ومن هنا شخصية الرجل وتشبثه بالقيم العليا ومن هنا أيضا هتاف الناس جميعا له . فلقد أحبه العراقيون وأحبوا فيه التواضع وحبه لهم ورمز الشهادة التي أضفت عليه بعدا أسطوريا والعراقيون يمتدحون حب الموت كأسمى ما في المعرفة الجمعية لديهم .وفي أثناء حياته كانت هناك أيضا المعسكرات المسلحة التي عيّنته جنرالا ثوريا وفخريا ولا نظن أنه رفض الشارات التي أغدقها عليه حراس الحدود هؤلاء بل أنه على الأرجح كان فخورا بأن يعتبروه واحداً منهم أولئك الذين أحبهم وأحبوه لكنه بقي على مسافة منهم ، أولئك الذين بقوا مخلصين له يحبونه حتى بعد رحيله واعتبروه مثلهم الأسمى .سلام عليك يا زعيم الفقراء وتباركت سيرتك يا من عشت فقيرا مظلوما ورحلت فقيرا مظلوما لا تملك شيئا من حطام الدنيا رغم أن العراق كله كان تحت يديك.