المنبرالحر

جدية منهج المصالحة الوطنية / زهير كاظم عبود

بعد قيام انتفاضة 1991 ضد الحكم الدكتاتوري تمكن الكورد من السيطرة على مدنهم ومناطقهم، وفرضوا فيها سلطتهم، وكان من أولويات ما تمت معالجته، قضية المصالحة الوطنية، فنهجوا نهجا حاسما وسريعا في معالجة هذا الملف بما يحفظ وحدة الشعب، ويضمن قضية الحقوق، بعد ذلك سارت عملية بناء الدولة ضمن المناطق المحررة بشكل يسير وشفاف، دون الالتفات الى الوراء، فما خلفه الزمن من جراحات وتضحيات للكورد، كفيل بأن يكون له معنى كبير وأساسي في قضية المصالحة بين الكورد انفسهم قبل أن تكون مع غيرهم .
أن اعتماد روح التسامح باعتبارها من ثوابت النهج الكوردي ضمن المصالحة، تعتبر من بين أهم الثوابت المعتمدة لحلول القضايا الشائكة والمعقدة التي واجهتها السلطة حينذاك، وباعتبارها منهجا يدخل ضمن الأيمان الحقيقي في بناء كيان يضمن حقوق الشعب الكوردي، والالتزام بالتطبيق الديمقراطي، صار ملف المصالحة الوطنية في كوردستان العراق منجزا أعطى نتائجه وثماره الإيجابية ضمن هذه المرحلة .
بعد قيام النظام الفيدرالي الجديد في العراق عام 2003، كان لابد من الالتزام بمنهج المصالحة الوطنية، واعتماد طريق العدالة الانتقالية، ومن بين أهم مقتضيات العدالة الانتقالية حماية المجتمع من الانفلات والرغبة في الثأر واستمرار حالة استتباب الأمن، وإشاعة روح الطمأنينة والعدالة والاستقرار، وتهدئة الأحوال، والانتصار على الذات، والدعوة لجميع من تهمه مصلحة العراق للمساهمة في تخطي المرحلة، وصولا الى أسس ثابتة للعدالة وقوانين تشمل الجميع وتطبق على الجميع دون استثناء وتكون هذه القوانين نابعة من مصلحة الناس وتطمح الى تحقيق العدالة بشكل سريع وبالحد الممكن لإشاعة مبدأ الحق والحقيقة والعدالة التي ينبغي أن تشيع في هذا البلد .
كان لابد من الالتفات لتجربة الكورد ضمن هذا الملف، وكان لابد ايضا أن يضع المعنيون بالأمر تأكيد التلاحم بين أبناء الشعب العراقي، وترسيخ قواعد الوحدة الوطنية، وإطلاق الحوار الوطني البناء والجاد، وإشاعة أجواء المحبة والانسجام بين مكوناته المختلفة ولمعالجة الآثار التي تركها الإرهاب والفساد الإداري والنظام الدكتاتوري وسيطرة الحزب الواحد لأكثر من عقد من الزمن، وغير ذلك ما يؤثر على أجواء الثقة المتبادلة بين الأطراف، والعمل على تعميم روح المواطنة المخلصة للعراق التي يتساوى عندها كل العراقيين في حقوقهم وواجباتهم، ولا تمييز بينهم على أسس من المذهبية والعرقية والحزبية السياسية، ومن أجل بناء جبهة وطنية واسعة لمواجهة التحديات واستحقاقات عملية البناء ورفاهية الشعب .
كان لابد من مشروع وطني تتم مناقشته ويطرح علنا ليتم تطبيقه، وكان لابد من التزام اخلاقي ووطني في تطبيق هذا المشروع حماية للمجتمع، وأن يتم حسم وتحديد الجهة التي نريد أن نتصالح معها.
تشكلت لجان عديدة من اجل البدء بتطبيق منهج المصالحة، وتم مبدأ اعتماد العدالة الانتقالية كطريق للتطبيق، وللأسف لم يتطابق المنهج مع الواقع العملي، لم يكن للتسامح وترسيخ قيم المحبة والحرص على التعايش السلمي حضور فعال ، ولا الحرص على تعزيز مبادئ الديمقراطية في العمل السياسي، ما جعل التناقض واضحا بين الواقع وبين الشعارات .
تعددت اللجان التي عقدت المؤتمرات، وقدمت الدراسات والبحوث، فكان الواقع في وادي والأيمان الحقيقي بمبدأ المصالحة الوطنية الجاد والحقيقي في واد آخر، ويكفي أن تمر على العراق اثنتا عشرة سنة منذ قيام الحكم الفيدرالي حتى اليوم، لم تستطع الحكومات المتعاقبة ولا اللجان التي شكلتها على تطبيق خطوات جدية وفعالة متقدمة في طريق المصالحة الوطنية، فلم تزل مؤسسات قائمة تتعارض مع التطبيق، ولم تزل الإشكالات والمعضلات دون حلول، ولم تزل الثقة منعدمة بين الاطراف، ولم تسجل المصالحة الوطنية خطوات صحيحة تجعل الأهداف قريبة، ولم نستفد من التجربة الكوردية في العراق، بل لم نستفد من أية تجربة إنسانية أخرى، وبقينا نراوح في مكاننا دون تقدم، بعد أن صارت المصالحة الوطنية شعارا تتخذه كل الحكومات التي تعاقبت كواجهة.
كان يفترض ان يتم انجاز هذا الهدف السامي باعتباره قاعدة أساسية من قواعد بناء الدولة الفيدرالية ضمن فترة زمنية قياسية، وكان يفترض أن يكون هناك اهتمام بعامل الزمان لما له من أهمية في ترصين الجبهة الداخلية وعملية البناء، وكان يفترض ان تقوم بالأشراف على تطبيق هذا الملف كل القوى السياسية، حتى يمكن ان يكون هناك قواسم مشتركة بديلا عن الانفراد في وضع الحلول البعيدة عن الواقع، او القليلة المحتوى، لم يكن هناك حوار جدي بين الأطراف، لا بين القوى والأحزاب السياسية المشاركة في الحكم، ولا بين السلطة والمعارضة، ولم يتم طرح مشروع برنامج وطني يحث جميع الأطراف على التمسك بمرحلة البناء، وإنقاذ البلد بعيدا عن فكرة الاستحواذ والتفرد، وبعيداً ايضا عن فكرة المحاصصة الطائفية بأي شكل كان .
للأسف لم تكن هناك جدية حقيقية في انجاز المصالحة الوطنية، ما عرقل عملية الاستقرار، وأعاق عملية بناء الدولة وما يتبعها من توفير اجواء الأمن والاستقرار، وبالرغم من تخصيص وزارة للمصالحة الوطنية ثم هيئة مختصة بالمصالحة، وبالرغم من تعيين موظفين كبار لهذا المشروع، وبالرغم من الأنفاق الكبير من المال العام، فإن غياب مفهوم المصالحة الوطنية عن الخطوات التي تم اتخاذها، والتمسك بعمل جهات تعرقل وتتعارض وتتناقض مع مفهوم المصالحة، وعدم رسم مشروع وطني يضع الخطوط العملية والواضحة للعمل الجاد، وعدم توفر اجواء المصارحة والنية السليمة بين الأطراف، وعدم اشاعة ثقافة التسامح والمحبة بين الناس، واستفحال ثقافة الطائفية والكراهية في المجتمع، سيبقي هذا المشروع حبرا على الورق، لا نجد له من التطبيق فرصة يمكن التعكز عليها .
لذا علينا ان نعيد النظر بسرعة وبجدية في مشروع المصالحة الوطنية، لأننا بحاجة ماسة للوحدة الوطنية، وللتماسك الوطني، وإعادة اللحمة الوطنية، وبحاجة ماسة للاستقرار وترميم ما تهدم من وطننا، وأن نضع للزمن اهتماماً وأهمية في حياتنا مثلما نهتم بترصين جبهتنا الداخلية وأن نؤمن ونسعى الى نشر ثقافة التسامح وقبول الآخر، وأن نسعى جميعا الى
اعادة ثقة المواطن بالمستقبل.