المنبرالحر

شيوعية الطفولة الأولى / طه رشيد

كنا نسكن في محلة.» الكنث « وسط بعقوبة والتي تغير اسمها بعد ثورة 14 تموز لتصبح «محلة السلام».
كان عامنا الأول أو الثاني في مدرسة الدبة ( ديالى الابتدائية للبنين) حين انتقل العراق الى النظام الجمهوري الجديد. وكانت المحلة شبابية التكوين شيوعية التوجه.. فيها مسرح في الهواء الطلق واعلام الجمهورية ترفرف على سياج الحديقة الكبيرة في المحلة. ونحن كنا صغارا نساهم في مظاهرات داخل المدرسة أو خارجها، ولم نستطع فك رموز شعارات تلك المظاهرات بسهولة ويسر كما كان يفعل حينها مرجعنا وصديقنا وزميل دراستنا داود محمد شريف (اغتيل في سنوات الحرب الطائفية).
كان داود يستمد المعلومات والشروح من أخيه الأكبر فياض الذي سافر في بعثة دراسية إلى جيكسلوفاكيا. وكان هو يلفظ اسم هذا البلد أفضل منا. سألني مرة إن كنت أحب فهد. أجبت بالنفي لأنني لم اكن أعرف أن كان فهد هذا جيرانهم أم قريبا لهم. ولم يخف داود انزعاجه من جوابي!
وراح يشرح لي بلغة طفولية بريئة المآثر التي سطرها هذا الرجل، والبطولات التي تتحدث عن صموده في السجن. لم أكن اسمع فقط، كنت أرى فيلم مغامرات صوره وأخرجه داود.
وحين أكمل حديثه أعاد السؤال ثانية:
- هسه اتحبه لو لا ؟
قلت:
- أجل أحبه الآن
فصرخ: يلله انروح نسبح ( في نهر خريسان المجاور للمحلة ) صرت شيوعي.
لم أفهم اسباب فرحه، ولم أفهم من كوني شيوعياً إلا شيئا واحدا وهو أنني صرت في قائمة ( الخوش ولد ) لأن العوائل في المحلة تحترم الشباب الشيوعيين لكونهم ( ميبصبصون) على بنات المحلة.
وبقينا نسلك وفق تلك السجايا التي علمتنا إياها الطفولة الأولى مقترنة بنصائح وخلق المعلم الشيوعي الانيق جدوع..كان يأتي كل صباح ببدلة وربطة عنق حمراء.. كان يحب الجميع ..وصار أنموذجا طيبا للجميع.. لكن لم تستمر فرحتنا به إذ تم اعتقاله أيام الانقلاب الفاشي في 1963 .. ولم يكتفوا باعتقاله بل اقدموا على اهانته وضربه أمامنا نحن طلبته . ولم يعد ثانية للمدرسة..
لم يكن في عائلتي ذات الأصول الفلاحية من كان على علاقة بالحزب الشيوعي . .كان شقيقي الذي يكبرني بسنتين. ( ياسين ابو ظفار الذي استشهد نهاية 2006) قد مر بتجربة مريرة في حياته.. لم يحب المدرسة كثيرا الا انه كان يعشق المطالعة..وكان صوته داخل البيت وخارجه متميزا حين اعتقل معلم جدوع كان يشعر بالاسى له . وفي السنة الأولى من مطلع السبعينيات كان يتذكر معلم جدوع كلما جرى الحديث عن سلطة البعث!
أذكر انه كان يعطيني قصاصات ورق وصحف بمقاسات صغيرة..
- أقرأها جيدا
كنت استمع بشغف لما يقوله لي عن عالم الاشتراكية الجميل ، وعن سفالة الأحزاب الفاشية واستهتارها بالقيم الإنسانية .، معتبرا السلطة الحاكمة خير دليل على كلامه.
لم يكن أمامي نموذج احتذي به غيره.. وما ان دخلت أبواب أكاديمية الفنون الجميلة حتى جاءني مهنئا:
- مبروك لقد وافق الرفاق على انضمامك للحزب.
حضنني وقبلني بحرارة اتحسسها حتى هذه اللحظة وهمس باذني :
- كنت شقيقي الذي تربطني به رابطة الدم . الآن أصبحت رفيقي وصار يربطنا المصير المشترك.
نم قرير العين أبا ظفار ..لقد حافظت على الأمانة التي سلمتني إياها وسابقى كما عاهدتك شيوعيا مخلصا للوطن والحزب.