المنبرالحر

لست نادما! / طه رشيد

أجل لست نادما أني تركت مدينة تزهو بأنوارها وتفتخر بجمالها! لست نادما أني تركت مدينة لا تعرف «توقفا» للكهرباء ولو دقيقة واحدة خلال ثلاثة عقود! نعم لست نادما أني تركت مدينة منحت لي الأمان وأنجبنا فيها أطفالنا وعلمتهم خير تعليم.. أجل لست نادما أن أترك مدينة يعيش فيها فلذة اكبادي .. وزوجة كنت وما زلت لها كل شيء!
أجل لست نادما أني تركت مدينة فيها مائة عرض مسرحي في اليوم! وفيها أكثر من مائة صالة سينما.. لست نادما أني تركت مدينة فيها عدد المراكز الثقافية أكثر من دور العبادة! لست نادما اني تركت مدينة ليس فيها جوع! لست نادما أني تركت مدينة لا تنام! لست نادما أني تركت مدينة لم يكن فيها الإنسان رقما! مدينة فيها العمل يغدق عليك مالا وفيرا حلالا!
لست نادما .. لقد فعلها قبلي ارنستو تشي جيفارا، الذي لم يترك مدينة فقط بل ترك وزارة وحكومة ومنصبا! وفعلها قبلي اصدقائي سعد والمهندس صلاح والفنان معتصم عبد الكريم والفنان ماهر كاظم . والمسرحي شهيد عبد الرضا. وماجد هاشم الياسين.. تركوا عواصم حقيقية وتسللوا سيرا على الأقدام عائدين إلى الوطن ابان الكفاح المسلح ضد النظام الفاشي المقبور. فاستشهدوا جميعهم !
لقد فعلها قبلي فنانون وأدباء وسياسيون تركوا مدنا عامرة دون ندم: مفيد الجزائري. حسين الهنداوي. جمعة الحلفي. عامر بدر حسون. صلاح حسن. د.ماهر سلمان. د.جاسم الحافظ .د. مشتاق العبيدي. مناضل داود. صبحي الجميلي. فخري كريم. محمد السلامي . قاسم حسن. جواد كاظم ( علي مالية ). عبد المنعم الأعسم. حميد قاسم. احمد المهنا. عدنان حسين. قاسم زيدان. رائد فهمي. حسان عاكف.. ومئات آخرون.. فماذا عساني انتظر إن أفعل سوى أن أفعل مثلهم؟ وان اتلمس خطاهم..
ولست نادما، لان بغداد تستحق أن نعود اليها وان نتنفس عبقها، وأن نساهم في فك حصار الفكر السلفي المتخلف عنها. المتنبي الخالد يقتل وهو في طريق عودته إلى بغداد. وبقيت قصائده شوكة في عيون قاتله. لست نادما أن أعود لأعمل في إعلام « الزراعة» متقاضيا مرتبا لا يتجاوز خمسمائة يورو شهريا بينما مرتبي في باريس كان يتجاوز هذا المبلغ بعشرة اضعاف ! لست نادما أن أقبل منصب مدير العلاقات والاعلام في دائرة السينما والمسرح خلال فترة إفلاس الدائرة ! ولست نادما أن استمر في عملي هذا رغم انقطاع مرتبي منذ ستة أشهر! وعدم حصولي على أية مكافأة مالية طيلة وجودي في المنصب.. ولست نادما أن أترك المنصب في أي لحظة يرتئيها المسؤول صاحب القرار ..لاني أؤمن إيمانا قاطعا بأن كرسي الوظيفة هو كرسي حلاق يتناوب عليه الناس بالجلوس. ولو بقيت لغيري ما وصلت لي.
لست نادما أن أقول للمسيء اسأت! ولست نادما أن ارفع القبعة واحني رأسا لكل فاعل خير. لست نادما أن أكره الحروب بمختلف أشكالها وألوانها وان أحب السلام. لست نادما أن أحب الجميع دون النظر لدين أو عرق أو عشيرة.
لست نادما على مساندتي التغيير وما زلت! لأنه كان يمكن ان يكون النافذة التي نطل منها على عراق ملون غارق بالمحبة. لست نادما أن ابقى هنا في هذه الفوضى المربكة والمرتبكة . لست نادما أن أجعل من العراق صورة وردية لاصدقائي في المنافي.. إذ رغم سحب الدخان هنا وهناك وعواصف الغبار إلا أني هكذا أراه.
لست نادما أن أكون جليسا على رصيف مقهى «رضا علوان « رغم مفخخاتهم!
واخيرا لست نادما ان لا أترك العراق لا في صيفه اللاهب ولا في شتائه الغارق في الوحل .. فهو الوحيد الذي يستحق أن نبقى معه إلى الابد.