المنبرالحر

نحن أمة أدب لا علم / د. ناهدة محمد علي

لقد كان دائماً ميراثنا الثقافي معتمداً ومؤطراً للأدب بكل فروعه . فقد برع شعراء الجاهلية حين علقوا معلقاتهم ، وتوارثهم المتنبي وأبي تمام وسيبويه والفراهيدي والجاحظ ، ثم توارث هؤلاء أجيال من الشعراء المداحين المختصين بمدح الخلفاء الأمويين والعباسيين وحتى الأندلسيين ولم يمنع هؤلاء من ظهور فلاسفة وعلماء مثل إبن خلدون مؤسس علم الإجتماع وإبن رشد والفارابي وعلماء أفذاذ مثل إبن سينا الذي ألف كتاب القانون في الطب والذي أُعتبر مرجعاً طبياً هاماً لقرون عديدة ، كما إشتهر إبن الهيثم بعلم الرياضيات والفيزياء وطب العيون ، وقام إبن النفيس في إكتشافه المعروف للدورة الدموية الصغرى ، أما الكندي فقد كان مَجمعاً للعلوم والفنون فإشتهر بالكيمياء والفيزياء والرياضيات والموسيقى والطب .
كان هذا السرد التأريخي الموجز لبعض العلماء العرب لأجل إعطاء الوجه التأريخي لعلومنا والذي توارثه الكثير من العلماء العرب المعاصرين من أمثال العالم العراقي عبد الجبار عبد الله وجعفر ضياء جعفر والعالم المصري أحمد زويل في مجال الكيمياء والدكتور الفلسطيني منير حسن نايفة في مجال الفيزياء والدكتور المصري محمد النشائي في مجال الفيزياء والبروفيسور اللبناني إدغار الشويري في مجال الفضاء والدكتورة السورية شادية رفاعي في مجال فيزياء الفضاء والدكتور المصري المعروف مجدي يعقوب المشهور بجراحة القلب عالمياً والعالم المصري المعروف فاروق الباز في مجال الجيولوجيا .
إن السرد السابق هو إلقاء ضوء خاطف وربط للميراث الثقافي العلمي للعلماء العرب وإشارة إلى الكثير من الأساتذة والمبدعين العرب في مجالات علمية متعددة ، لكن كل هذا لم يجعلنا أمة علم فمعظم هؤلاء العلماء لم يجدوا التربة الصالحة لعلومهم في أوطانهم بل إحتوتهم الجامعات والمؤسسات العلمية العالمية وما كان بمستطاعهم أن يخدموا مجتمعاتهم بعلومهم وإن أرادوا ذلك وأكثر من هذا كان دائماً وجود هؤلاء في أوطانهم كان دائماً مبعث خطر فكري وجسدي عليهم وفي أحسن الأحوال قد يتعرضون للإهمال .
أما الميراث الثقافي الأدبي فقد قاوم كل أنواع الحصار السياسي والثقافي ، وخرج من خلال الحركات السياسية الكثير من الأدباء المبدعين ، ولم يعاني الأدب العربي من الولادات المتعثرة كما عانت العلوم والمخترعات العلمية والتطور التكنولوجي العربي لأن هذا الأخير كان أكثر صعوبة وثقلاً ويحتاج إلى ظروف موضوعية أشد رسوخاً من الآداب ، فلم يكن مفترضاً للأديب العربي الدرجات العلمية أو التجارب العلمية بل إعتمدت دائماً على الفطرة العربية السليمة وكان ثوار الريف والمدينة يلقون بأشعارهم وكانت رهافة الحس العربي والخيال الأدبي الواقعي هوالأساس للكثير من الإنتاج الأدبي ، وجاءت أجيال من الشعراء إستلمت راية المتنبي وأبي تمام مثل الرصافي والزهاوي ومحمود شكري الآلوسي والجواهري والسياب من العراق ، ومن الشام إبراهيم اليازجي وبطرس البستاني ، ومن مصر رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين والعقاد ونجيب محفوظ ، وإستلم أيضاً هذه الراية أدباء أفذاذ لا عد لهم ولا حصر من أمثال أمل دنقل ، أحمد فؤاد نجم ، محمود غنيم ، نزار قباني ، أنيس منصور ، حنا مينة ، محمد الماغوط ، غسان كنفاني ، يوسف إدريس زكريا تامر وغيرهم كُثر . كان هؤلاء أجيال من إفرازات المجتمع العربي بكل تقلباته السياسية والإجتماعية والثقافية . لكن الأدباء المعروفين لم يكونوا كل ميراثنا الأدبي بل أن كل مدينة عربية أو حي أو قرية تزخر بالأدباء والشعراء وتضج بها مقاهيهم وجلسات سمرهم وحتى مجالس التأبين لديهم ، ولا يحتاج الشاعر العربي سوى قلم وورقة وخيال جامح ، ولا فرق هنا أن يكون الشاعر جائعاً أو مترفاً ، أمياً أو متعلماً ، وهو لا يحتاج هنا إلى مختبر علمي أو سنوات يقضيها من عمره في إجراء التجارب العلمية ويعتمد العلماء في هذا على كثير من الظروف الموضوعية التي يجب أن يوفرها له المجتمع والتي ينتج عنها التقدم العلمي في حركة المجتمع بأكمله .
لقد توارثنا الأدب العربي ولم نتوارث العلوم وكأن عقارب الزمن قد توقفت بالنسبة للعلوم ، أما ما أنتجه المجتمع العربي من علماء ومختصين فقد حُكم عليهم أن يتقيدوا بأُطر وظيفية غير مدروسة وأضطر الكثير منهم للهجرة لدول أُوربية والتي أطلقت العنان لعقولهم الفذة لكي تمارس إبداعاتها العلمية، ومعظم ما ذكرناه من علماء عرب قد أُضطروا للهجرة لممارسة نشاطاتهم العلمية ، وقد أُضطر أيضاً الكثير من علمائنا الشباب إلى ممارسة وظائف عادية بعد إن إنتهت مخترعاتهم العلمية على رفوف المؤسسات العلمية أو وزارات الشباب ، وقد يتلقفها أحد المتنفذين ليتاجر بها ، ويلعب الدور الكبير في هذا قصور الوعي الإجتماعي والوطني وقصور التخطيط العلمي مع تخلف البرامج التعليمية وظمور التعليم المهني . وقد جاء في تقرير منظمة اليونسكو على أن 20% من شباب الدول العربية لا يكملون التعليم الإبتدائي ويفتقدون إلى المهارات اللازمة لعالم العمل ، ويؤكد التقرير على أن في مصر مثلاً نسبة عدم الإلتحاق بالتعليم الإبتدائي هو واحد من خمسة ، ويعمل الشباب المفتقد للتعليم بشكل غير قانوني وغير مؤهل في المؤسسات غير الرسمية بدون ظروف مستقرة للعمل ويتقاضون على هذا الأساس أُجور تبقيهم تحت خط الفقر . وبتقرير للأمم المتحدة والذي يرصد ( التعليم للجميع ) ، يوضح بأن الربيع العربي قد كشف إستياء الكثير من خريجي الجامعات الغير قادرين على العمل كما أكد التقرير على أن الملايين من شباب المنطقة العربية لم يكملوا المرحلة الدنيا من التعليم الثانوي ويعملون لقاء إجور متدنية وهم مهملون من قِبل الهيئات المسؤولة عن مشاكل التعليم والعمل .
إن الكثير من الدراسات السكانية تؤكد على أن الشعب العربي هو شعب منتج للزيادة السكانية لكنه شعب غير منتج بل هو مستهلك للحضارة العالمية .
لقد أكد تقرير برنامج الأمم المتحدة منذ 2009 على أن من المتوقع وصول أعداد السكان في العالم العربي في 2015 إلى ( 395 ) مليون نسمة ، وقد تتجاوز نسبة سكان الحضر منهم حوالي 60% بحدود عام 2020 . إن هذا يعني أن الفرد العربي لن يجد ما يأكله وهو مستهلك للإنتاج الزراعي العالمي لأن الأرياف العربية قد أصبحت غير منتجة للغذاء نتيجة للظروف الإقتصادية والبيئية المتردية ونتيجة لهجرة المزارع وهو قد يفضل العيش على الكفاف في المدينة على العيش في الريف حيث لا تتوفر الخدمات الإقتصادية وبالخصوص الزراعية منها والخدمات الصحية والماء والكهرباء مع قلة معاهد التعليم المهني الزراعي في الريف والمدينة ، والتعليم هنا لا يوفر إحتياجات الإنتاج المهني والإقتصاد ولا تتوفر إحتياجات هذا التعليم من خطط وبرامج وورش ومختبرات . وقد أكد تقرير البرنامج الإنمائي على أن أكثر من 65 مليون عربي يعيشون في حالة فقر تام كما يؤكد على أن معدلات الفقر العام تتراوح ما بين 28% و 30% في حدها الأدنى في سوريا ولبنان وقد زادت هذه النسبة بعد الحرب ، ونحو 60% في حدها الأعلى في اليمن ، ونحو 41% في مصر . ويبلغ عدد الجياع في العالم العربي 25،5 مليون جائع ، والغريب في الأمر أن التقرير قد أكد على أن الدول العربية الغنية مثل العراق والإمارات والسعودية والكويت لا تستثنى من ذلك بل يعاني من الجوع فيها شرائح واسعة في المجتمع .
لو حللنا أسباب الجوع والفقر في الدول العربية لوجدنا أن سوء التخطيط العلمي وسوء التخطيط الإقتصادي واللذان سببا البطالة هو السبب الأساسي لذلك حيث تتميز الدول العربية بأعلى نسبة للبطالة في العالم وتبلغ حوالي 20% ، وينعكس هذا على عمالة الأطفال حيث تضطر العوائل الفقيرة إلى إرسال أطفالها لورش العمل بدل مقاعد الدراسة للحصول على قوت يومهم
إن الكثير من الأرقام والإحصائيات لا توفرها المؤسسات العلمية والإقتصادية العربية ولا الوزارات المسؤولة ، وإن قُدمت التقارير فهي أما أن تكون ناقصة أو مشوِهة للحقيقة لذلك يعتمد الباحثون على تقارير وإحصائيات المنظمات الدولية والإنسانية . ويذكر مقياس عالمي للفساد والذي يضع معيار تصاعدي للشفافية بأن العراق يقع في النقطة الأخيرة لهذا المقياس ووضع أيضاً في المؤخرة الصومال والسودان وأفغانستان ، وأُعتبرت هذه الدول وفي مقدمتها العراق في حيز الدول الأكثر فساداً في العالم .
وينعكس الفساد الإداري والإقتصادي على مستوى الزراعة والصناعة . ورغم قلة الإنتاج الصناعي تتمز الدول العربية وخاصة العراق بأنها من الدول الأكثر تلوثاُ بالعالم ، إذ أن الملوثات هنا لا تأتي من مخلفات الصناعة بل من مخلفات الفساد الإداري والمالي والإقتصادي بشكل عام مع عدم توفر العلاجات العلمية لدرء هذا التلوث . وقد أكدت النشرة البيئية العالمية على أن موقع العراق هو في المرتبة الأخيرة حيث خصصت خمس مرايا باللون الأخضر الغامق ثم الأخضر الفاتح ثم الأبيض ثم الفرنفلي ثم الكستنائي وهو لون الصدأ والذي يتمتع به وللأسف العراق العزيز . وتأتي الملوثات هنا من سوء الخدمات في نظافة المدن ومحروقات آبار البترول والبنزين والغازات المنبعثة عن المجاري والمزابل ومولدات الكهرباء بالإضافة إلى أكداس الحيوانات النافقة والإشعاع الناتج عن حرب الخليج والحرب مع إيران . وقد جاءت سويسرا بالمرتبة الأولى للنظافة البيئية ، لكن من المضحك إن موقع العراق قد جاء بعد اليمن وأريتيريا وليبيا ، ولم يكن هذا التلوث البيئي إلا نتاج منطقي لهبوط المستوى العلمي وهبوط القدرات المهنية والتكنولوجية للمجتمع العربي قي التخلص من نفاياته بكل أشكالها . وليس التلوث البيئي إلا جزء من أنواع كثيرة من التلوث القيّمي والإجتماعي وآخر ما وصلنا إليه هو التلوث السياسي .
إن المجتمع العربي قد أصبح معتمداً على إنتاج العالم الصناعي والزراعي مقابل المواد الخام ، ومع هذا لا زالت الكليات الأدبية تخرج الآلاف من العاطلين كما لا يجد خريجي الكليات العلمية فرص كافية للعمل أو للتطور وتقل بشكل أكثر المعاهد الزراعية والصناعية لقلة الوعي الإجتماعي وقلة إحترام المجتمع لهذا النوع من المعاهد على قلتها . وكمحصلة لكل هذا لا يمكن للدول العربية أن تصبح دول علم وتكنولوجيا ، وعلينا أن نحمد الله على أن لدينا هذا الزخم الواسع من الأدباء والشعراء الذي يشيرون بأقلامهم الفذة لمواقع الخلل ويحلمون بالفردوس المفقود كما يحلمون بربيع عربي آخر يعقب هذا الشتاء وعلى الشعوب العربية الإنتظار .