المنبرالحر

فلك الدين كاكائي وداعا ! / يوسف ابو الفوز

كنت صبيا ، تعرفت على أهمية الكتاب ، واتطلع للتزود بالمعرفة والاطلاع على ما هو جديد ، حين وقع بين يدي كتاب " بطاقة يا نصيب " ـ طبعة دار الساعة عام 1967 ـ لمؤلفها فلك الدين كاكائي ، هذه الرواية التي اعتبرها الدكتور عمر الطالب جزءا من التراث الروائي العراقي ، وفيها تعرفت الى "خضر" ، الانسان الكادح، الذي تسرق الفئران فرصة العمر منه فتمزق بطاقة اليانصيب ، وظلت شخصيته عالقة في بالي رغم كل السنين والكتب مع اسم مؤلفها بايقاع حروفه الخاص، ولتدور الايام والتقي في منتصف ثمانيات القرن الماضي في جبال كردستان بمؤلف الرواية، وكان قائدا سياسيا ومن الوجوه البارزة في النضال المسلح ضد نظام صدام حسين الديكتاتوري، وحين زرت كردستان صيف 2007 قابلته وزيرا للثقافة في حكومة اقليم كردستان ، وفي صيف 2008 شرفني بزيارة خاصة الى بيتي في محل اقامتي في فنلندا ، واستثمرت الوقت الممتع الذي قضيناه معا لاجري معه حوارا شاملا ، نشر في حينه ، وكررت عليه سؤالي عن "خضر"، اين صار كرواية واحلام بطل ؟ ليخبرني بأن خضر مازال يواصل البحث عن اهله وعن احلامه و"البحث الانساني لا يتوقف ابدأ " !
هل عثر فلك الدين ـ خضر على احلامه واهله ؟
ولد فلك الدين كاكائي عام 1943 في مدينة كركوك ، ووجد طريقه للنضال السياسي مبكرا ، في صفوف الحزب الشيوعي العراقي ، وحتى بعد ان انقسم اتحاد الطلبة يقول " صار قسم تابع الى الديمقراطي وقسم مرتبط بأتحاد الطلبة العام تابع الى الشيوعي . انا بقيت مع اتحاد الطلبة العام وكان مسؤولي الطلابي شيوعي فبقيت معه "، ومع تنامي الشعور القومي الكردي، وفي عام 1961 صار عضوا في الحزب الديمقراطي الكردستاني، وعن ذلك قال ( في عام 1961 ، انتقل البعض من تنظيم الحزب الشيوعي الى تنظيم الحزب الديمقراطي الكردستاني بشكل طبيعي بدون اشكالات وتقبل الحزبان الامر بدون اشكالات . كانت وثائق الديمقراطي مقاربة لوثائق الحزب الشيوعي، بل وكانت تنص على " الاهتداء بالماركسية اللينية ". وكان بين الحزبين تحالف كبير ، فعملية انتقالي كانت اشبه بالانتقال من فرع حزب الى فرع اخر. كانت هناك ايضا انتقالات بالعكس من الديمقراطي الى الشيوعي) . وظل فلك الدين كاكائي امينا لاحلام الكادحين واحلام خضر خلال عمله في الصحافة العربية في بغداد، وهذا الذي جلب عليه نقمة السلطات ، فكتب باسماء مستعارة عديدة ، لكن جوهره الانساني لم يتغير ، استزاد معرفة وحكمة من اجادته للغة العربية والفارسية والتركية والاطلاع على كتابها ، والترجمات من الادب العالمي الى هذه اللغات. كتب بالعربية عن قضايا الانسانية تحت اسم الحلاج مستعيرا صوته وتصوفه ، وفي لقائي معه اعتبر الفترة من 1967 الى 1974 ، سبع سنوات كاملة " فترة مهمة في حياتي وحياة العراق ، وتاريخ العراق السياسي " ففي هذه الفترة كتب بأسلوب نثري بروح التصوف واليسار، بل ان الدكتور مصطفى كامل الشبيبي اعتبره الكاتب العراقي الوحيد الذي ادخل منهج الحلاج التصوفي في الصحافة، وقال عنه انه الوحيد الذي استطاع ان يمزج الافكار الشيوعية بالقومية بالتصوف ، لينتج من ذلك شئ جديد ومميز، هذا التميز ربما هو الذي دفع احد التجمعات الادبية الكردية في اربيل عام 1998 لاستثناء وضع اسمه ضمن قوائم الادباء الاكراد ! ولم يكونوا على خطأ الى حد ما ، ففلك الدين كاكائي الكردي الفخور بقوميته والتي منحها جزءا كبيرا من حياته في العمل السياسي، لم يكن متعصبا، ولم يكن الا مثقفا كونيا ، ينهل من فضاء الانسانية ، وظف قدراته وامكانياته من اجل احلام الكادحين .
لقد تدرجت معرفتي بفلك الدين كاكائي ككاتب ومناضل وقائد سياسي ثم وزير، ولكني دائما وجدته مثالا للانسان المتواضع ، المتعامل ببساطة مع الناس ، بافق انساني يواصل البحث عن احلامه واحلام الاخرين . كان لي شرف ان اخوض معه حوارات عميقة في الشأن الكردي والسياسي ، كان انسانا ذا افق ديمقراطي يتقبل الرأي الاخر بكل تحضر . كانت جهوده ودعمه من عوامل انجاز ونجاح " الاسبوع الثقافي الفنلندي في كردستان "، وسألني زملائي الفنلنديين المشاركين في الفعالية ، بعد ان التقوه أكثر من مرة ولمسوا تواضعه وادبه الجم وسعة اطلاعه :
ـ أكل رجال الدولة عندكم يشبهونه !
وكان علي ان اقول لهم بحق ، بأنه انسان متفرد ومن الصعوبة ان نقابل اديبا لم يسرق كرسي الوزارة منه روح التواضع . في حفل توقيع كتابي " تحت سماء القطب " ، في اذار 2010 ، حين منحتني وزارة الثقافة لاقليم كردستان درع الوزارة ، كان حاضرا وقال كلاما جميلا عن الرواية التي قرأها بتمعن معتبرا اياها رواية كردية ـ عربية، وتحدث عن ايمانه بدور المثقف في بناء مستقبل العراق الديمقراطي . كان يعتز بشكل كبير بالمناضلين العرب المشاركين في حركة الانصار الشيوعيين ضد النظام الديكتاتوري المقبور ، يحرص على حضور غالبية فعالياتهم ، وقدم كوزير وسياسي واديب دعما ماديا ومعنويا متواصلا لنشاطاتهم .
برحيله خسرت صديقا عزيزا ، وجميعا خسرنا انسانا فذا زاهدا ودمثا ومضحيا ، وكانت برقية تعزية الحزب الشيوعي العراقي دقيقة اذ تقول "برحيله خسرنا جمعياً علما من أعلام الثقافة الكردية والعراقية المتعددة، وإنساناً ارتبط وثيقا بقضايا الإنسانية وهمومها وتطلعاتها، ومشهود له بمواقفه الوطنية ونزوعه الديمقراطي وخياراته المدنية المتحضرة " .
وداعا ابا برشنك ، ان ذكراك ستظل عطرة في قلوبنا !