المنبرالحر

أيها المتنفذون.. لا تهدموا البيت على ساكنيه ! ملاحظات حول حديث النائب علي العلاق الاخير / سيف صادق

كعادتهم معظم ساسة بلادنا، ورغم مرور اكثر من 12 عاما على ولادة "العراق الجديد"، ما زالوا مصابين بعمى ألوان سياسي تجاوز "الماء الأبيض" الى بدايات ظهور اعراض "الماء الأسود" مما يقتضي اجراء عملية جراحية قبل ان تصاب العيون بالعمى الدائم.. ولات ساعة مندم على ضياع البوصلة.
من يستمع الى ما تحدث به النائب السيد علي العلاق في برنامج متلفز يصاب بالغثيان. فالحديث مشحون من ألفه الى يائه بالتناقضات وبالتحريض على الاخرين، الذين - حسب زعم السيد - يحاولون " إسقاط الاسلاميين وتجربتهم الإصلاحية وتحميلهم كل الفشل الذي جرى في المراحل  السابقة". علما ان الحكومة الحالية (والحكومات السابقة) " مكونة من اليساري و العلماني والإسلامي وغير ذلك من الاتجاهات" حسب السيد النائب .
وإذا انتقلنا من العموميات الى الخصوصيات ودفعنا كلام السيد النائب الى نهايته القصوى وجب قول الملاحظات التالية:
- إن هذه تصريحات تحاول الهروب الى الامام وتتجنب التوقف امام المشكلات الفعلية التي تواجهها البلاد والمجتمع في لحظة تطورهما الملموسة. هكذا اذن وبكل خفة و سهولة رحّل السيد النائب مشكلات الحاضر وأرجعها الى الماضي.. وأكملها بإشارته الى قيام "بعض الجهات العلمانية" – وان لم يسمها بالملموس عن قصد (ولكن المعنى بقلب الشاعر كما يقول المثل) في محاولة لخلط الاوراق – بتحميل الاسلاميين وتجربتهم  الاصلاحية  كل الفشل الذي جرى في المراحل السابقة". هكذا اذن رحل السيد العلاق كل فشل التجربة الحاضرة، بنظامها المحاصصي الطائفي - الاثني الذي قاد البلاد الى ازمة بنيوية عميقة ومتعددة الصعد، رحلها الى الماضي. ومدخل السيد النائب هذا هو في واقع الحال مدخل ايديولوجي (بالمعنى السلبي للايدولوجيا كأداة لتزييف الوعي الجمعي والفردي) من لحم ودم لتزيف الراهن وعرضه على غير واقعه عبر التمسك بتلابيب الماضي الدكتاتوري وترحيل مشاكل الراهن الى ذلك النظام وهو الذي ذهب الى مزبلة التاريخ غير مأسوف عليه.
في مقاربته المقلوبة هذه لا يريد السيد النائب الاعتراف بأن البلاد تواجه ازمة عميقة تتمظهر في حالات استعصاء متكررة ناجمة بالأساس عن المعركة المحتدمة بين القوى المتنفذة حول السلطة والنفوذ والثروة، وحول شكل ومحتوى الدولة الجديدة، ما تجعل من هذا المشهد مجالا مغلقا الى حد ما، يعيد انتاج نفس الأنساق السياسية القائمة، هذا إلى جانب غياب الرؤية السياسية لهذه القوى، واعتمادها مبدأ اقتسام السلطة والمحاصصة الطائفية.
فقد أعطت التطورات السياسية التي عرفتها البلاد منذ 9/4/2003، وعبر كل التجارب الانتخابية والاستشارية، ديمقراطية ناقصة، مشوهة، مبتورة، لأن طبيعة وبنية السلطة في العراق والتوازنات التي تحكمها تجعل منها غير قابلة للتداول بالمعنى الديمقراطي الصحيح، فالديمقراطية تقوم اساسا  عالى فكرة المواطنة وليس على اساس الهويات الفرعية وهو ما يسود اليوم .
ولا بد من تذكير السيد النائب ان الحراك المجتمعي قد انطلق، والتهم الجاهزة لن توقفه. ومن الضروري تطوير شعارات الحراك والانتقال بها من المطالبة بتحسين الخدمات ومكافحة الفساد.. الخ، الى طرح بديل يكسر شوكة الطائفية السياسية ويمنع محاولات احتكار السلطة وإعادة إنتاجها، البديل الذي لابد ان يؤسس لوعي اجتماعي جديد. ورغم ان الطريق لتحقيق ذلك ما يزال طويلا شاقا ومخضبا بالدماء والحِناء، لكنه طريق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.
- وإضافة لذلك فان الفقرة اعلاه من تصريح السيد النائب تحريضية بامتياز ولها دلالات عدة، كما وتحمل في طياتها رسالتين في ان واحد. الاولى موجه للحراك المجتمعي بعدم تجاوز "الخطوط الحمر" المرسومة، والثانية تحضير بعض القوى الغارقة في عسل السلطة وامتيازاتها لكي تشحذ سكاكينها وبنادقها وميليشياتها لمواجهة محاولة "اسقاط الإسلاميين" – كما قال السيد العلاق. والسيد النائب العلاق، وان كان لا يتحدث بشكل مباشر عن الوسائل التي يجري تحضيرها لهذه المواجهة المفترضة، إلا ان مضمون ،الرسالة واضحا و يذكرنا بمقولة السيد نوري المالكي العتيدة " اخذناه وما ننطيها "!! حيث ينبغي أن تبق السلطة ونظام الامتيازات المشتق من طبيعتها دون مساس ولا تقاسم
 أما الاعباء وآثار الازمة المدمرة فيجب ان يتحملها الفقراء والكادحون من مختلف الملل والنحل، وإذا انتفض هؤلاء على واقعهم المزري فالتهمة جاهزة: انتم علمانيون لانكم كفرتم بـ "نعمة" المتحاصصين التي توزع "بركاتها" من الفقر والتهميش الاجتماعي بالعدل والقسطاط!! . تعني هذه العبارة المبطنة للسيد العلاق ان الحديث عن اللعبة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وقبول الاخر والتظاهر والتعبير عن الرأي هي مجرد عبارات للاستهلاك المحلي، بل مجرد هراء. سيدنا العلاق.. اطال الله عمرك!، لا احد من "العلمانيين الفاسقين" ! ينافسكم على بضاعة فاسدة هي النظام المحاصي ومنتجاته، هذا النظام الذي قاد البلاد الى هذه الازمة وما نتج عنها من هذه الحركات الاحتجاجية الواسعة (التي تضم كل المتضررين من الاسلاميين والوطنيين والديمقراطيين والعلمانيين من مختلف مدن وقصبات العراق)، والتي لا تريد القوى المتنفذة التوقف امامها والبحث عن اسبابها الفعلية ومطالبها الحقيقية. انها حركات لا تريد العودة الى "الماضي التليد"، وفي نفس الوقت تعبر عن رفضها للحاضر المأساوي في مختلف جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفساد الذي اصبح مؤسسة عالية البنيان تباهون بها الأمم!!. إنه لمخطئ من يحاول ترحيل اشكاليات الحاضر وتناقضاته الفعلية الى الماضي، ومحاولة استحضاره في مناسبة ودونها لإرغام من يحتج على الراهن، علما ان ذلك النظام قد اصبح خارج التاريخ وغير مأسوف عليه. لا تقتفوا خطوات المقبور راس النظام السابق الذي كان يرحل كل مشكلاته وحروبه الى "المؤامرات التي تحيكها الامبريالية وأعوانها ورجعييها" وكأن الصراعات بين الدول اشبه بمبارزة بين نبلاء يتم فيها تحديد الاسلحة المستعملة باتفاق جنتلمان بين المتبارين. وقد قاده هذا التحليل العقيم الى خوض حربيين اقليميين/دوليين ونتائجها وقياماتها المعروفة من دمار وخراب، اضافة الى حروبه المحلية طبعا.

- في هذا التصريح "الثوري" يسعي السيد النائب العلاق، وعن وعي وسبق اصرار، الى حرف الامور عن وجهتها السليمة بخلط الأوراق وترتيبه ترتيبا خاطئا للتناقضات الدائرة وخصوصا التعتيم على التناقض الرئيسي الناظم للمرحلة الراهنة مع الدولة الاسلامية "داعش" وجماعاتها، واختزال الصراعات كلها في صراع واحد ووحيد هو الصراع بين "العلمانيين" و "الاسلاميين". هكذا عدنا الى المربع الاول بإخراج المارد من القمقم !.
- وإضافة لذلك فإنه وبدلا من القيام بتحليل عميق للأسباب الفعلية للحركة الاحتجاجية الراهنة، يهرب السيد النائب الى السهل: تحميل الامر على العوامل الخارجية متمثلة بـ "وجود إرادة دولية وإقليمية بإبقاء العراق على وضعه وعدم تطوير واقع الخدمات فيه". انه لأمر محزن ان تصل الامور الى هذا الدرك من التبسيط. ها هي اذن الارادة الدولية والإقليمية - بحسب السيد النائب- هي التي منعتنا من تطوير الخدمات !! ولكن في واقع الحال الجميع يتحدث اليوم عن ان السبب الاساسي هو عدم وجود رؤية كما لم تبلور القوى المتنفذة اية استراتيجية لمواجهة المشكلات الفعلية – وليست المفترضة- هذا اضافة الى الفساد السياسي والإداري والمالي الذي ينخر البلاد ويحطم الاقتصاد.
- ثمة عبارة "مدهشة" بل وصادمة في حديث السيد النائب هي امتداد لعبارة "الارادة الدولية والإقليمية" التي اشرنا اليها اعلاه. هذا العبارة متناقضة مع العبارة السابقة حين يشير الى ان " اختيار الوزراء والوكلاء الذين تعاقبوا على وزارة الكهرباء لم يكن موفقا والعقود أبرمت على أساس العمولات". لن ندافع عن وزارة الكهرباء ولا عن وزرائها الذين تعاقبوا عليها فهم كانوا من اعمدة النظام المحاصصي الغارق في عسل الفساد حتى اخمص قدميه، ولم يكونوا استثناء طبعا، ولكننا نتساءل: لماذا يصر السيد علي العلاق على هذه الوزارة وكأنها هي اصل البلاء وجذر الازمة الراهنة ولا ينبس ببنت شفة حول النظام السياسي ذاته. ثم انه وبدلا من القيام بنقد جذري لطريقة اختيار الوزراء والوكلاء الذين لم يتم اختيارهم على اساس الكفاءة والخبرة والنزاهة بل على اساس الولاءات لقادة الكتل ورؤساء الاحزاب المتنفذة، بدلا من ذلك يكتفي السيد النائب بالقول ان " اختيار الوزراء والوكلاء لم يكن موفقا والعقود أبرمت على أساس العمولات". من قام باختيار هؤلاء الوزراء والوكلاء؟ سؤال يتحاشى السيد علي العلاق الاجابة عليه مباشرة ومن دون رتوش.
المشكلة ياسيدنا العلاق ليس في أن اختيار الوزراء والوكلاء لم يكن موفقا.. وان العقود ابرمت على اساس العمولات، كما ذكرتم، بل تكمن في طبيعة النظام السياسي السائد ذاته وفي القوى التي استفادت من الطبيعة الريعية للاقتصاد العراقي. فقد نمت في إطار ذلك فئة بيروقراطية مترسملة متموضعة في "الشرائح" البيروقراطية الحكومية والسياسية والعسكرية والأمنية العليا. كما تنامى دور البورجوازية الطفيلية. وخلال هذه الفترة نشأ التحالف بين " النخبة " البيروقراطية وبين الفئة الطفيلية في إطار ديناميات العلاقة الزبائنية بينهما. هذا اضافة الى تعاظم دور الكومبرادور، لنصبح  امام ثلاثي الأبعاد: طفيلي - بيرقراطي -كومبرادوري - ، هذا التحالف الماسك بتلابيب البلاد والعباد لا يرشح الى المناصب العليا إلا من خرج من تحت عباءته وقادر على اعادة النظام المحاصصي من دون عوائق .
بعد هذا التمرين التعبوي للسيد النائب علي العلاق الذي تبلورت مفرداته في تصريحه المتلفز، ما عسانا الا ان نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل !
ويبدو انه ومن تصريح السيد النائب، وهو احد اركان نظام المحاصصات الطائفية –الاثنية، انه اذا سارت الامور على غير ما تشتهي به سَفن القوى المتنفذة فعلى الجميع ان يتوقعوا تمرينا بالذخيرة الحية.
انها السلطة ياسيدي! لن يتقاسمها المتنفذون إلا فيما بينهم.. اما المجتمع فله رب يحميه !
قال الشاعر يوما:
يا سيدي السلطان..
لقد خسرنا الحرب مرتين
لان نصف شعبنا بلا لسان
والسيد العلاق بتصريحه هذا يريد ان يجعل من كل شعبنا بلا لسان، وليس نصفه!!