المنبرالحر

التظاهرات بين الواقع والطموح / د. جواد بشارة

يتعين علي من موقعي كمراقب للأحداث ومحلل وإعلامي أن يكون موضوعيا ومحايدا ومستقلا وغير منحاز لهذه الرؤية أو تلك ومن هنا أتناول الحدث بهذه المقاربة .
هناك عدة أطراف تقف على طرفي المعادلة السياسية وهناك الظاهر والمخفي في كواليس الأحداث. وهناك أيضاً الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام والنقاط الغامضة التي توسم الأحداث.
لقد وصلت الأوضاع إلى الحد الذي يفوق القدرة على التحمل عند المواطن العادي حتى غير المسيس الذي بات مطلعا على تفاصيل الفساد المستشري وسرقة المال العام . وجاءت مشكلة الكهرباء بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وانخفاض أسعار النفط إلى أكثر من خمسين بالمائة وتفاقم خطر داعش وتكوين الحشد الشعبي وما يترتب على ذلك من تداعيات وأعباء اقتصادية ومالية وسيكولوجية. الطبقة السياسية المترفة والفاسدة في جميع مستويات السلطة في العراق كانت لامبالية وغير خائفة من غضب الشارع مستندة إلى الغطاء الديني الذي تبرقعت به ومستغلة اسم المرجعية والاستقطاب الطائفي الذي بات يتحكم بالنسيج المجتمعي . لكن قادة الطبقة السياسية الحاكمة كانوا غافلين عن تأثيرات الربيع العربي الذي حدث في العديد من دول الجوار والتي تكللت بالنتائج التي نعرفها سواء على نحو تراجيدي كما في سوريا وليبيا واليمن أو على نحو تسووي كما حدث في مصر وتونس. دول الجوار العراقي وهي السعودية وإيران وتركيا والأردن وسوريا والكويت، تراقب بحذر وخشية المشهد العراقي وتطوراته وتتدخل فيه على نحو مباشر من خلال امتداداتها العراقية، لذلك فهي ليست بعيدة عما يحدث. وهناك الخطوط الحمراء التي يضعها المجتمع الدولي في حالة تفاقم الوضع وخطورة أن تطفح الأمور وتتجاوز المساحة الجغرافية المسموح بها.
الكتل السياسية الحاكمة غير مستعدة للتنازل عن امتيازاتها وهي تملك المال والسلاح والرجال ووسائل الإعلام الخاصة بها لتسويق تبريراتها وشرح مواقفها أثناء عملية التفاوض والتسويف والمماطلة لإقناع الطرف الآخر، وهو الجماهير، بالعدول عن المطالب الجوهرية والاكتفاء ببعض المطالب الشكلية والآنية ، بحجة عدم توفر الإمكانيات وبذريعة الحرب ضد داعش . الجماهير مستمرة في التظاهر وبوتيرة متصاعدة لكنها حتما ستصل الى مرحلة ستراوح في مكانها وتكرر فعلها دون تأثير يذكر إلا إذا انتقلت إلى مرحلة أعلى وهي مرحلة الاعتصام المدني الجماعي ومن ثم العصيان المدني، وفي هذه الحالة لابد من قيادة خبيرة ومدربة وواعية ونزيهة وجريئة وشجاعة لاستغلال الزخم الجماهيري وتوجيهه الوجهة الصحيحة . التحدي الجماهيري المعلن ستكون له تداعيات وتضحيات وربما مواجهات دامية مع الخصوم وهذه متوقعة حسب ما يردنا من معلومات عن ترتيبات تعد في الخفاء وترسم عدة سيناريوهات للخروج من الأزمة. لابد من التدقيق في تصريحات السياسيين المعنيين وردود أفعالهم وتحليلها وقراءة ما بين السطور لأنها بمثابة رسائل مشفرة من قبيل تكوين الحشد الشعبي المدني المزمع إنشائه وزجه بين المتظاهرين. ولا بد من معرفة مواقف الميليشيات المسلحة . ومدى حيادية الجيش وقوى الأمن والشرطة في حال تلقيها أوامر بمهاجمة المتظاهرين بدل حمايتهم كما يحدث اليوم. هذا هو الواقع أما الطموح فهو مشروط بوضوح الرؤية لدى المتظاهرين هل هو مجرد تغييرات طفيفة في الأشخاص والخدمات ام المطلوب هو تحولات جوهرية في بنية الدولة وهيكيليتها وأسسها وتغيير جذري لنظامها السياسي وليس مجرد إصلاحات فوقية سرعان ما يتم الالتفاف عليها وتفريغها من محتواها الحقيقي فما هي خيارات العبادي المتوفرة أمامه؟ هل سيختار الجماهير أم طبقته السياسية؟
من السابق لأوانه الحكم على رئيس مجلس الوزراء العراقي، الشخص وليس المنصب،وتقويم الدكتور العبادي ونواياه الحقيقية أو معرفة حقيقة موقفه وقدراته الحقيقية في إدارة هذه المرحلة الحرجة التي هي انعطافة حقيقية في العملية السياسية البديلة للنظام الصدامي السابق. فالرجل مقيد بجملة من التوافقات والتعهدات والالتزامات التي كانت وراء وصوله إلى منصب رئاسة مجلس الوزراء، ومحاط بمجموعة من الحيتان الكبيرة والقوية التي تمتلك ميليشيات مسلحة وتنظيمات عسكرية مدربة ومسلحة لا تمنحه الولاء سواء كانت سنية أوشيعية أوكردية ولن تسمح له بالاستفراد بالقرار السياسي حتى لو تذرع بذريعة الإصلاح والاستجابة لمطالب الشارع العراقي. ولكن لايمكننا في نفس الوقت اتهامه بالتقصير والعجز وعدم الرغبة في الإصلاح الحقيقي والخروج من الدربب أو الطريق المسدودة الذي وصلت إليها أحوال البلاد على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وهو يعرف ذلك جيداً. فالملفات التي أمامه كبيرة وضخمة وصعبة ولا يمكنه حلها بضربة عصا سحرية وبمجموعة من القرارات المحدودة التأثير التي يمكن الالتفاف عليها بسهولة وإفراغها من محتواها من قبل المناوئين والخصوم والمنافسين. فهو أمام مفترق طرق فإما أن ينأى بنفسه عن رفاق الأمس ويبادر إلى كشف أخطائهم وفسادهم، وإما أن يتغاضى عنها على طريقة عفى الله عما سلف. والحال أن عليه ألاً يكتفي بخطوات خجولة تخديرية لامتصاص النقمة والهياج الجماهيري بل العمل بجدية على تهدئة الناس وتلبية احتياجاتهم المشروعة والبحث عن برنامج حقيقي فعال قابل للتطبيق والتنفيذ وبواقعية وعلى نحو جذري والبحث عن نقطة انطلاق وبداية جديدة وحقيقية لعراق يسير نحو الاستقرار والازدهار واستعادة الأموال المنهوبة ومحاسبة الفاسدين.
فهل يملك الدكتور العبادي الإمكانات والمؤهلات والقدرة والرغبة والجرأة على السير في الطريق الصحيح الذي خطه المتظاهرون بحناجرهم وشعاراتهم ومعاناتهم، ومعهم المرجعية الدينية التي بدأت تستشعر مكامن الخطر على العملية السياسية التي رعتها منذ ثلاثة عشر عاماً، وبالتالي سوف تعمل، هي الأخرى، على احتواء الغضب الجماهيري قبل أن تتطور الأوضاع إلى ما لاتحمد عقباه ويغرق العراق في بحر من العنف والدم لا سمح الله. فالسياسيون الذين يحكمون اليوم مستعدون لعمل كل مايمكنهم عمله لحماية جماعاتهم ومافياتهم الفاسدة التي تعبث في أرض العراق. وان استمرار الحراك الجماهيري وبوتيرة متصاعدة، وممارسة المزيد من الضغوط والتهديد بالاعتصامات والعصيان المدني هو وحده الكفيل بتلبية المطالب الجوهرية وانتزاع المزيد من التنازلات حتى لو تطورت المواجهة السلمية إلى مواقف حاسمة، على غرار ما حدث في مصر في الأمس القريب ، على أمل ألا تنزلق على نحو تراجيدي وتتطور سلبيا على غرار ما يحدث الآن في سوريا. فما تزال الطبقة السياسية تمتلك المزيد من الأوراق الكثيرة والخطيرة بيدها لتسويف المد الشعبي وتثبيط الهمم والمراهنة على عامل الوقت والتعب والإنهاك النفسي والمعنوي والمادي، قبل توجيه الضربة القاصمة للحراك الشعبي والذي سيطال العلمانيين والتيار المدني الديموقراطي والمستقلين والليبراليين، فالأمر ما يزال في بدايته والحراك الشعبي ما يزال عفويا وحماسيا ويفتقد للقيادة الحقيقية المتمرسة والواعية التي بمقدورها أن تقرأ موازين القوى على الأرض بشكل صحيح .
مهمة رئيس الوزراء العراقي شاقة لأنه يواجه ظرفا دوليا وإقليميا وداخليا بالغ التعقيد والخطورة فمن جهة هناك جماعات داعش الإرهابية التي ما زالت تشكل خطراً داهماً على العراق برمته ، ومن جهة أخرى التدخلات الإقليمية من قبل دول الجوار العراقي ولكل حساباتها وأجندتها الخاصة ، وأخيرا الموقف الدولي الغامض من أزمة العراق والمواقف المزدوجة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وقوات التحالف الدولي التي من المفترض أنها موجودة لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي وتدميره ، وهناك الواقع الميداني العراقي الداخلي المفعم بالتناقضات والغائص في بحر من الفساد والعناصر المنفلتة المدججة بالسلاح و والمتخمة بالمال والمتمسكة بمخالبها وأسنانها بالسلطة وهي تتعارض مع الجماهير بالتوجهات والأهداف وباتت تتكاثر على نحو مرعب كالفيروسات وتمد أذرعها كالإخطبوط إلى كافة مرافق الدولة وبالتالي يمكن توقع ردود أفعالهم وشدتها والتي لا يمكن إلا أن تكون عنيفة ولا يمكن تجاهل ثقلهم العسكري والمالي وتأثيرهم، وبالتالي لا يمكن التعاطي معهم بليونة وتساهل وبأسلوب النوايا الحسنة لطمأنتهم على امتيازاتهم.
لا بد لرئيس الوزراء الدكتور العبادي أن يمتلك قوته الميدانية الخاصة متمثلة بالجيش والقوى الأمنية التابعة له والمنفذة لأوامره، بعد غربلتها وتصفيتها من العناصر المشبوهة، لمواجهة القوى المسلحة غير الشرعية أو الخارجة عن القانون وأن يحيط نفسه بعناصر كفوءة ونزيهة ومتمرسة لإدارة المشهد السياسي والإعلامي والعلاقات العامة. وعليه أن يتحلى بالشجاعة والجرأة في كشف الحقائق وتسمية الأشياء بمسمياتها وإطلاع الشعب، وبالأسماء والوثائق، على كل من أساء ونهب وسرق وتقاعس وعرقل مهمة إعادة البناء والإعمار الحقيقية بعد سلسلة الحروب المدمرة التي عاشها العراق في العقود الأخيرة منذ عام 1980 إلى يوم الناس هذا. فملفات الفساد والخدمات وإعادة النظر على نحو جوهري بالعملية السياسية برمتها، هي الإصلاحات العاجلة التي يجب أن تتحقق ولو على مراحل لإعادة الثقة في نفس المواطن العراقي اليائس والمحبط من كل ما مر عليه خلال العقود الماضية فالشعب العراقي، رغم الكوارث التي مر بها، ما يزال يعي ويدرك حقيقة ما يجري ويعرف التفاصيل و مفتح باللبن كما يقول المثل العراقي فلا يجب أن يستهان به. هذه فرصة تاريخية لن يكررها الزمن وما على الدكتور العبادي إلا أن يقتنصها ليحفر إسمه في التاريخ السياسي للعراق كزعيم وطني نزيه أو أن يضيعها من بين يديه وتحل الكارثة على الجميع.