المنبرالحر

من أفـسد رجـل الـديـن ... الـسياسة أم الـمال / د. مؤيد عبد الستار

في العراق الحديث، منذ تأسيس النظام الملكي عام 1921 ، حتى يوم 9 نيسان 2003 لم يستلم رجال الدين –  او المؤسسة الدينية - السلطة ، فثورة العشرين التي قادها رجال الدين بالتعاون مع العشائر العراقية جنوب العراق ، أخمدتها القوات البريطانية التي كانت متفوقة بالعدة والعدد والخبرة العسكرية، ولم يتسنّ لرجال الدين القيام باي دور سياسي تنفيذي حقيقي بعد تأسيس الدولة العراقية رغم ان الوزارة الاولى التي تألفت باشراف المسز بيل كانت برئاسة رجل الدين البارز نقيب الاشراف عبد الرحمن الكيلاني النقيب ، ومع انه كان رجلا مسنا في السبعين من عمره الا انه ارتضى ان يكون تابعا للسيدة البريطانية عن طيب خاطر ، مدركا ان البريطانيين اصحاب عقل وعلم وقوة ودهاء ، لذلك آمن بما قسمه له الله من بركات على ايدي المسز بيل والمستر بيرسي كوكس بعد ان كان من اقرب المقربين الى السلطان العثماني عبد الحميد ومن أشـد الموالين للسلطنة العثمانية العلية التي غربت شمسها فاقتصرت على جمهورية اتاتورك .
ظلت جميع المؤسسات الدينية ، المرجعية الشيعية في النجف ، الوقف الشيعي ، الوقف السني ، رجال الدين: المسيحي والايزيدي والمندائي، الاحزاب الاسلامية المختلفة ، ظلت تعمل بهدوء وسلام من أجل الحصول على المكاسب المادية وبعض حقوق الطقوس الشعائرية لطوائفها .
وكانت احيانا تخرج للعلن بشكل سلمي ،مطلبي ، وعلى الاغلب كانت متعاونة مع الحاكم والسلطان ، عدا بعض مراحل حكم الطغمة الصدامية ، التي كشر فيها صدام عن انيابه لأكبر طائفة في البلاد ، منكلا بالشيعة ومراجعهم الذين تعرضوا للعسف والقتل على ايدي مخابراته وجلاوزته، وكذلك بدرجة اقل اضطهاد بعض مراجع الاديان والطوائف الاخرى.
فالمرجعية الشيعية على سبيل المثال لم تقم باي نشاط سياسي او احتجاج علني فعال على ما جرى للكرد الفيليين الشيعة اثناء تهجيرهم الى ايران بظروف لا انسانية والتي بدأت بحملات بعثية ظالمة اوائل السبعينات واستمرت لتصل اوجها في حملة الابادة الفاشية عام 1980 التي تعرضوا فيها لابشع انواع التهجير القسري والسلب والنهب وتصفية شبابهم بالقتل والتعذيب .
كل ذلك كان يجري تحت انظار الجميع جهارا نهارا ، تقوم به اجهزة الامن والشرطة والقمع البعثية ، حتى انها كانت تقوم ببيع ممتلكات الكرد الفيليين بالمزاد علنا وكان البعض يتسابق لنهبها ، ما يذكر بالفرهود الذي اصبح سمة الكثير من الاحداث الفاجعة ، واشهرها فرهود اليهود .
والفرهود تقليد قبلي قديم معروف هو النهب والاستيلاء على اي شئ يمكن الحصول عليه بعد المعركة ، كان يمارس في الجزيرة العربية بعد الغزوات ثم انتشر مع الفتوحات الاسلامية ليصبح اكبر مورد للجزيرة العربية ، عرف بالغنائم ، وتجددت ممارسته على نطاق واسع من قبل عصابات داعش التي ترفع راية الله واكبر في فرهدة اموال وممتلكات القرى الشيعية و الايزدية والمسيحية وبيع المواطنين الاحرار في اسواق النخاسة واستغلال النساء كإماء على شاكلة الغزوات .
لم يكن رجال الدين منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة يحلمون في تسلم حكم العراق ، لان العراق بدأ عهده على يد الساسة الانجليز امثال المسز بيل و بيرسي كوكس وداهية السياسية نوري السعيد وغيرهم ، من الذين كانوا يعملون على تأسيس دولة مدنية على انقاض الولايات العثمانية الثلاث ، بغداد والموصل والبصرة ، التي كانت اقطاعيات جباية اموال للولاة العثمانيين ، الذين تركوا بصمات الفساد والرشوة في جميع مفاصل الادارة، من رأس الولاية في القشلة حتى اخر باش بزق في سراي الادارة العصمنلية .
كان على اغلب رجال الدين الاعتماد على المواطنين ، واغلبهم مزارعين فقراء ، من اجل الحصول على مورد يعتاشون منه ، لذلك استغلوا المواطنين بشتى الوسائل الطقوسية وابتكار مناسبات زيارة الاضرحة التي راحت تنتشر في العراق شمالا وجنوبا ، ففي كل مدينة مجموعة من الاولياء والمساجد والصحابة والتابعين وابناء الائمة واصحاب الانبياء من ابراهيم الخليل حتى خاتم الانبياء والائمة المعصومين وغير المعصومين من الاتباع والبنات والبنين ، حتى امتلأت زوايا المدن بالأضرحة المقدسة واصبح الناس كانهم سكارى يهيمون بين القبور، يندبون حظوظهم ويبكون موتاهم ، وقبل ذلك انفسهم التي تصحرت جراء مناسبات فجائعية ما انزل الله بها من سلطان ، فعاشوا في فقر وجوع وسقم، مدنهم مهجورة وديارهم بائسة وحياتهم مجدبة لا يجدون من ينير لهم الطريق ، سوى بعض المحتالين من فتاحي الفال الذين قادوا الفقراء الى التهلكة، مثلهم مثل عازف المزمار الذي قاد الجرذان الى البحر لتلقى حتفها فيه .
فتح الحظ ابوابه بعد التاسع من نيسان 2003 لرجال الدين الذين سجلوا احزابهم لدى العم سام قبل التغيير ، فقدموا الاسماء الرنانة ، مزودة بعمائم ملونة ( بلاك اند وايت ) حسب الحاجة لنيل الامتيازات ، فتسلق البهلوانات من المحتالين سلم الدين والدنيا ، يقدمون فروض الولاء والطاعة لبريمر و كونداليزا رايس وغاردنر ورامسفيلد، اذ ادركوا ما فاتهم من اطاييب مائدة المسز بيل، فأرادوا ان يعوضوا ما خسروا من ملاذ الدنيا .
شمروا عن سواعدهم يسرقون القصور والبنوك ، ويشترون بالأموال المنهوبة العقارات اللندنية والاماراتية ، ولم يبخلوا على انفسهم بتعليق شهادات الدكتوراه المزورة على رقابهم ، فاصبح دكاترة سوق مريدي وسوق العورة في العراق كل عشرة بفلس ، حتى انكشف امرهم للقاصي والداني ، فلم تجد المرجعية بدا من نشر ملابسهم القذرة على حبال الغسيل لتعلن ان اتباعها سراق لا علاقة لهم بالدين من قريب او من بعيد ، رغم انهم رتعوا في ملاذ الحكم عشر سنوات بالتمام والكمال ليتركوا البلاد نهبا للذل والهوان والافلاس .
ولما انكشف الامر وانخسفت الوجوه المعطوبة بالعلامات السوداء على جباه المحتالين ، هب المواطنون الفقراء الى ساحة التحرير ، يلوذون بأحرار العراق المنقوشة تماثيلهم على اللافتة المرمرية البيضاء يستنجدون بها من جور الدجالين الذين استولوا على الوزارات والمناصب العامة والخاصة ، وسرقوا الاصفر الرنان والاخضر الطنان من البنوك بحيل شرعية ، وعاثوا فسادا في البلاد بفتاوي مرجعية ، لا تعرف من صاحبها ومن بارئها ، فالزواج بالقاصرات صار حلال شرعا ، ونهب الاملاك مقبول شرعا، وتوزيع المناصب والاموال السحت الحرام على الاهل والاقارب مجاز شرعا .
ويبرز هنا سؤال جوهري يطرحه الناس على انفسهم ، من علم رجل الدين السرقة واللصوصية ، وكيف يسرق علنا ، من يقف امام الجمهور يقرأ عليهم الآيات البينات من القران الكريم والادعية المنسوبة الى الصحابة والائمة وعلى الاخص الامام علي المشهور بزهده وتقواه ؟!
هكذا بين شرع وشرع ، واية ودعاء ، انفتحت كوة في جدار الدين والدنيا ليطل منها المواطنون على احوال حكامهم ، فشاهدوا في وجوههم علامات الذل واللصوصية ، وجاء يوم الحساب ، وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون .