المنبرالحر

ليست جنّة / قيس قاسم العجرش

مؤلم بكل المقاييس، منظر الشباب العراقي والعوائل العراقية وهي تخوض البحار والقفار سعياً الى مكان جديد يبدأون فيه دورة حياتهم من نقطة مجهولة تحت الصفر. قد تنجح وقد لا تنجح.
أجد مصدرين للألم، الأول أن الشباب المهاجر(ولأنهم من مختلف الأطياف) انما يفرغون العراق من تنوعه الحالي والمستقبلي. والثاني، أن كثيراً منهم سيعود خلال بضع سنين بلا تأهيل حقيقي، هؤلاء العائدون ستكون تجربة الهجرة غير المدروسة قد استنزفت خلاصة عمرهم وفورة نشاطهم.
بعض قصص الهجرة ستنجح، ويفلح أصحابها في حيازة حياة أفضل هناك وربما يغتني البعض منهم، لكنها بالمُجمل عملية خاسرة في ميزان بلدنا، سنخسر ونستمر بالخسارة كلّما هجرَ شابٌ هذه الأرض التي لا ذنب لها بما يحدث على ظهرها.
الهجرة الى أوروبا ليست جنّة بكل المقاييس، فيها الكثير من الحظ وتحت رحمة «النرد» لتحديد شكل الحياة التي سينالها المهاجر.
ليست جنّة لأن الجنان لا تكون جِناناً إلا لمن يُساهم في صُنعها أصلاً. والمهاجر في العادة سيعيش على هامش تلك المُجتمعات التي لم يألفها ولن يكون جزءاً منها إلا بشق الأنفس.
وكلّ الجنان والأوطان العادلة التي حلم بإقامتها كل مفكري الانسانية إنما وصفوا تشييدها بالعمل تحديدأً. وفي هذا الشأن كتب اعظم فلاسفة البشرية عن السعي إلى اقامة «المدينة الفاضلة»، لكن احداً منهم لم يذكر انها تنشأ عن طريق الهجرة!
قليلة جداً هي قصص المهاجرين التي تحولت الى قصص نجاح بلا ضياع، وقليلة هي العوائل التي خسرت شاباً مهاجراً واستمرت في حياتها هنا بلا كآبة تنطبع على قامة الأب أو على وجه الأم الباكية.
المهجرُ ليس جنّة، انما هو مكان يمكن فيه للمهاجر ألّا يجوع ولا يعرى، ومع هذا فقد مرّت بالمهاجرين وخاصة العوائل منهم أيام جوع واحتياج يكظمونه بأسنانهم. صحيح أن الوطن ليس فندقاً نهجره حين تسوء الخدمات فيه، لكن صحيح أيضاً أن «الخدمات»في هذا «الوطن- الفندق» لن تتغير إلا بإرادة النزلاء( أي المواطنين انفسهم).
للمهاجرين كل الحق في توصيف سوء الأوضاع في وطنهم لكن الوطن نفسه يمنحنا اليوم فرصة التغيير. فهل يمكن أن نتركه لنتغير نحن فقط؟!..الهجرة ليست جريمة، لكنها تحمل الكثير من القسوة على وطنٍ لم يكن قاسياً أبدأً مع ابنائه، بل انه كان كريماً معهم الى حدٍ لا يوصف وتحمّل إساءات البعض منهم بشكل مؤلم ..ولحد الآن يتحمل.. فالأولى ان نمنع عنه الإساءة.