المنبرالحر

ايه الحكاية يا نور العين / ابراهيم الخياط

سلامات سلامات سلامات.. يا حبيبنا يا بلديات
شوف سافروا معاك كم واحد
ما وحشنا منهم واحد
لا لا لا لا دنته وحشتنا بالذات
هذه الأغنية الجميلة، كانت تصدح بها المطربة نادية مصطفى، وكنا نستمع اليها من الاذاعة الوحيدة أيام الحرب العراقية الايرانية وما كنا ندري أن الرقابة قد حذفت مقطعا منها هو الأخير، الذي تقول فيه: ايه الحكاية يا نورالعين.. شوف شبابك بيروح فين.. كل شي في الدنيا يهون.. ونلاقيله بديل مضمون.. غير شبابنا دمهما يكون.. لو يضيع نجيبه منين..
وكان السبب ـ طبعا ـ أن هذا المقطع قد يؤدي الى هروب جماعي للجنود لما في كلماته من معان تحريضية على الإياب نحو المدن وترك جبهة الوحشة والأحزان والموت. أما الآن فلو اذيعت لزادت نسب مبيعات النجادات أضعافا مضاعفة. فالمدن التي كانت تؤوينا ونحن فرارية صارت الآن مثل (المتقدم) المرعب، اذ باتت مدننا تنام خلف جدران الكونكريت، وصارت هي جبهة الوحشة والأحزان والموت.
بعد أن كان لدينا ابن زريق بغدادي واحد صار العراقيون كلهم أبناء زريق البغدادي، وواحدهم ليس مثل صاحبنا الشاعر يكتب واحدته الشهيرة ويخاطب زوجته، بل صار العراقي يخاطب الحكومة أن لا تعذله فالعذل يولعه، ويقول لها عن نفسه:
قد كان مضطلعا بالخطب يحمله ..... فضيّقتِ بخطوب الدهر أضلعه
حتى هج وترك الصاية والصرماية. والأدهى أن الأمهات يحرضن أولادهن على الهجرة وقصدهن السلامة. فمركب البلد ليس بأسلم أو أثبت أو أأمن من مركب البحر البعيد، فإن نجا فسيتلفلف بملاءة ناصعة في كمب المهجرين. ومن درد حكام الصدفة أن المهاجر سوف لا تأخذه موجة حنين إذا استمع الى: (سلميلي لو وصلتي ديارهم.. سلميلي وشوفي شنهي أخبارهم.. سلميلي يا طيور الطايرة .. سلميلي يا شمسنا الدايرة)، بل سيغلق الجهاز، ويلعن ذاك اليوم الأسود، وما أكثر الأيام السود.
هذا اذا نجا، أما اذا لفّه الموج الأزرق، فسيصدق عليه قول الجواهري لأخيه الشهيد جعفر:
فإِمَّا إلى حيث تبدو الحياة .... لِعينيكَ مَكْرُمةً تُغْنَم
وإمَّا إلى جَدَثٍ لم يكُن .... ليفضُلَه بيتُكَ المُظلِم
وطبعا لو زار صاحبنا ساحة التحرير متظاهرا لما كان هاجر. ثم انه هاجر لأن العراق بفضل قادة الصدفة صار بلا رواتب وبلا أمن او أمان وبلا خدمات وبلا تعيين وبلا حصة تموينية كريمة وبلا نزاهة وبلا جالغي وبلا فن وبلا دور سينما وبلا حبانية وبلا لون وبلا طعم وبلا عطور. وما أصدق الحكاية:
ذات يوم، ذهب جحا مع ابنه الى السوق. فمرّت بهما جنازة وخلفها امرأة تولول وتقول: ها هم يذهبون بك إلى بيت لافراش فيه ولا غطاء ولا خبز ولا ماء.
فرفع ابن جحا رأسه نحو ابيه وقال:
ـ والله يا أبتاه، إنهم ذاهبون إلى بيتنا..