المنبرالحر

أسس عملية الاتصال اللغوي في ضوء مبادئ علم التحكم الذاتي ( السيبرنيتكا ) / د. عامر صالح

الحلقة الأخيرة

لقد نشأ علم التحكم الذاتي ـ السيبرنيتكا(1) متأثرا بمعطيات علوم كثير, لعل أهمها علم الفسيولوجي ( علم وظائف الأعضاء ) وبشكل خاص فسيولوجيا الدماغ , حيث تم نقل مبادئ وقوانين عمل العضوية الحية إلى نطاق العضوية الجامدة, وكانت إحدى ثمرات ذلك العقول الالكترونية, كما ساهم علم التحكم الذاتي بدعم الكثير من الافتراضات التي قدمتها علوم الطب والفسيولوجي. وقد اكتسب الاتصال اللغوي ( باعتباره عملية عقلية عليا راقية ) أهمية خاصة كجزء من عملية التأثر بمعطيات آليات الدماغ. وساهمت مفاهيم التحكم الذاتي بدورها بوضع الكثير من الافتراضات التي ساهمت بفك رموز الآليات الدماغية للاتصال اللغوي, وقد اتضح هذا التداخل الأخير بإسهامات العالم ( ل. زابروتسكي ) والتي تركت صدى واسعا في المنابر العلمية !!!.

لقد أسس العالم المذكور ميدانا جديدا من المعرفة أطلق عليه علم الترميز ( كودماتيكس ), وقد عرفه بأنه علم يدور حول مبادئ التحويل ( ترانسفورميشن ) أثناء فعل الكلام. لقد شكل العالم وجهات نظره الخاصة بالنماذج الآلية لنشاط الكلام بالعودة إلى مفاهيم التغذية الراجعة أو المرتدة ( فيدباك )(2). لقد أكد ( زابروتسكي ) أن كل نماذج التحكم الذاتي ( سيبرنيتكس موديل ) تتكون من منظومة معلوماتية يميز في تركيبتها قناة ( مسلك, مرور ) وعلى الأقل حزمتان من الحزم التحويلية. كما يجب أن تتكون القناة من ثلاث دوائر معلوماتية, هي:
1 ـ دائرة المعلومات الأساسية(3)
2 ـ دائرة مراقبة المعلومات
3 ـ دائرة توجيه المعلومات
أن عمل منظومة الاتصال اللغوي يمكن توضيحها بالشكل الآتي: يستند النموذج العام لعملية الاتصال اللغوي على قاعدة قوامها: المرسل ـ المستقبل, فعندما يرغب المرسل في إيصال معلومات إلى المستقبل, يحدث في الدماغ خيارات معقدة وعملية تحويل. ونتيجة لذلك تتكون إيعازات عصبية مناسبة تتجه إلى القناة النطقية, عند ذلك تتحول الإيعازات إلى حالات نطقية محددة. وهنا تظهر عملية التحول الثانية التي تحمل الرمز اللغوي, ثم يقوم بعد ذلك مستقبل المعلومة بعملية إعادة تشكيل العناصر الإكوستيكية ( الفيزيائية ) إلى عناصر سمعية ويحدث هذا في الأذنين, وهي عملية التحول الثالثة !!!.
كما أن القيمة السمعية تخضع بدورها إلى إعادة تحويل إلى ايعازات عصبية. وهذه الايعازات العصبية تذهب بدورها إلى الدماغ حيث تخضع إلى عملية تحويل لاحقة. إن الأمكنة التي تظهر فيها عملية تحول للإشارة يطلق عليها ( زابروتسكي ) الحزم التحويلية: الدماغية, النطقية, الأكوستيكية, والسمعية. إن منظومة الاتصال اللغوي تعتبر كاملة عندما تسمح قنواتها بتبادل الأدوار, أي عندما يمكن أن يصبح المرسل مستقبلا, والمستقبل مرسلا للمعلومات.
يوضح ( زابروتسكي ) عمل المنظومة بالشكل الآتي: في أساس كل نشاط اتصالي تكمن ثلاثة عناصر: المعلومات, مراقبة استقبال المعلومات من قبل المرسل, والتوجيه المناسب لكل عملية إيصال المعلومات. ويمكن ملاحظة ذلك جيدا في النشاط الحواري. حيث يستجيب المستقبل مباشرة للايعازات المعلوماتية للمرسل وبالعكس. ومن خلال الحوار المتبادل لإطراف عملية الاتصال يتم التأكد إذا كانوا قد بلغوا الهدف المناسب , أي إيصال متبادل ومناسب للمعلومات, أم أن عملية الاتصال لم تؤد النتيجة المرجوة, وتوجه كل عمليات الاتصال الكلامي على غرار هذه العملية. فإذا اتضح على سبيل المثال أن احد إطراف عملية الاتصال لم يفهم الآخر, فان نقطة التوجيه المركزي والتي علمت حول هذه الحقيقة معتمدة على مراقبة المعلومات, سوف تسعى لتوجيه مسار المعلومات كي يفهم الطرف الآخر الهدف المناسب. ويمكن لعملية المراقبة أن تستند إلى تحليل جوهر إجابات المستقبل, أو الاستناد إلى انعدام الإجابة, أو إيماءة تشير إلى أن الطرف الثاني لم يفهم المعلومة. كما يمكن في النهاية الاستناد إلى استجابة بصرية من المستقبل, وفي الحالة الأخيرة فان مراقبة المعلومة تسلك طريق المنظومة البصرية.
ويتحدث العالم المذكور عن اكتساب اللغة, حيث يحدث في قناة دائرة أخرى ـ دائرة بناء القوالب ( مايتركس ) الذي يولد الإشارات. إن عملية تعلم اللغة هي عملية معقدة, وتختلف جذريا عن عملية تعلم أي موضوع آخر مثل: التاريخ, علم الأحياء, الجغرافية والتي تستخدم فيها اللغة كوسيلة للاتصال والتعبير عن المحتوى. ففي الحالات الأخيرة نلاحظ إن كل عناصر منظومة النماذج اللغوية ( منظومات اصغر وحدة صوتية " الفونيم ", وأصغر وحدة لغوية ذات معنى " مورفيم ", المفردات, التركيبات النحوية " سانتكتك ") هي عناصر مشتركة بين المرسل والمستقبل. ومن بقايا المنظومة الخطية(4), أنها تكون مشتركة أيضا مع بعض العبارات الثابتة والتعبيرات الاصطلاحية, لكن المستقبل لا يعرف اختيار العناصر المذكورة والتي تعمل من مخزن المرسل ومن المرسل نفسه. وكذلك فاستقبال محتوى الجمل والموضوعات فإنها غير معروفة للمستقبل. والمرسل الذي يمتلك المحتوى مخزنا يقوم بتحويله إلى جمل ملموسة, حيث يختار من المخزن الداخلي التركيبات النحوية, المفردات, اصغر الحدات اللغوية ذات المعنى, واصغر الوحدات الصوتية. كل ذلك ينفذ بواسطة استدعاء إشارات وعائية ناقلة ( الأصوات ) من المخزن الداخلي !!!.
ومن الواضح إن التركيبات وتنفيذها وعائيا تبقى أخيرا مشفرة في الحزمة الدماغية الناقلة على هيئة ايعازات عصبية. ويجب على المستقبل إعادة تشفير النشاط التركيبي الخطي من خلال عملية التحليل, والذي يستند إلى اختيارات المرسل للعناصر اللغوية من مخزن نماذجه بهدف إرسال المعلومات. وينجز ذلك بالشكل الآتي: يخضع العناصر المناسبة الحاملة للمعلومة والتي تتصف باستمرارية خطية إلى منظومة نماذجه الخاصة. وعملية الإخضاع هذه تستند على النشاط الانتقائي للعناصر اللغوية المناسبة من المخزن الخاص. كما إن العناصر المنتقاة يجب أن تكون متفقة مع العناصر المنتقاة من قبل المرسل. ويمكن الحصول على محتوى الجملة, ويقصد بها الجملة الدالة, من خلال التوليف الخاص للمفردات وأيضا القواعد. وهذا الأخير ( دلالة الجمل والموضوعات ) هو الذي نخزنه. فنحن لا نخزن الكيان المادي الملموس للجمل أو الموضوعات, وإذا استدعيت الحاجة إلى كلمات جديدة كحاملة لمحتوى المفردات فان ذلك ينفذ من خلال ما يسمى بالشفرة اللغوية الداخلية حيث يتم توضيح العناصر غير المعروفة بواسطة العناصر المعروفة وبمساعدة الجمل بشكل خاص. ونستطيع أن نكتسب كلمات جديدة من خلال ربطها بموضوعات ملموسة. إن هذا السياق يكون صعبا بالنسبة لضبط محتوى مجرد وهنا نكون مجبرين بإحداث عمليات تحويلية تعتمد على الشفرة اللغوية الداخلية !!!.
إن المظهر المذكور أعلاه يتغير تماما في حالة ضبط اللغة نفسها, أي ضبط نفس وسيلة اتصالنا الكلامي, ففي هذه الحالة نلاحظ أن محتويات مخزن النماذج اللغوية للمرسل لا يتطابق مع محتويات مخزن نماذج المستقبل. فإما أن يكون مخزن المستقبل فارغا ( في حالة تعلم الطفل للغة الآم ), أو يكون مملوء بعناصر أخرى مقارنة بمخزن المرسل ( كما في حالة تعلم لغة أجنبية ). وفي هذه يجب بناء مخزن للنماذج اللغوية بالاستناد إلى المعلومات الأساسية ( أو كما يسميها زابروتسكي بالمعلومات النووية ) مطابقا لمخزن المستقبل, أي يجب بناء أداة جديدة لإنتاج وإعادة إنتاج إشارات اللغة التي اخترنا تعلمها هدفا لنا, أي بصورة عامة نبني قوالب لغوية مناسبة. إن دائرة المعلومات الأساسية تصبح في هذه الحالة دائرة بناء, وهذه هي وظيفتها الثانية, وهذه الوظيفة تستمر طويلا حتى نضبط بشكل كامل تركيبات اللغة المعنية. ويحدث ذلك بالشكل الآتي: إن الطفل يضبط التركيبات المغلقة في نهاية السنة الرابعة عشر( في اغلب الأحيان ). ولكن عملية اكتساب قاموس جديد ( مفردات ) وكذلك محتوى الموضوعات فهي عملية تستمر مدى الحياة. وبذلك فان دائرة البناء في مجال التركيبات المغلقة(5) ينتهي نشاطها في فترة شباب الإنسان, وتتعرض بعد للتآكل مع مرور الزمن. أما في مجال القاموسية والمحتوى فان دائرة البناء تستمر بمقاييس متباينة إلى نهاية الحياة !!!.
إن حقيقة تأكل دائرة البناء في مجال بناء التركيبات المغلقة في عمر معين من حياة الإنسان تمتلك أهمية خاصة بالنسبة لتعليم اللغات الأجنبية, أي إن مؤشر(بارومتر) العمر يجب أن يحسب له الحساب في تعلم اللغة الأجنبية. وهذه الملاحظة تؤخذ بالكامل بالنسبة لتعلم لغة الأم !!!.
ويتحدث زابروتسكي عن دائرة المراقبة الداخلية فيؤكد أنها نشاط يستند إلى سماع نفس المرسل لحديثه, إن المرسل الذي يمتلك سمعا طبيعيا عادة ما يسمع ويراقب حديثه. وبهذا فان منظومة الاتصال اللغوي يكملها مسلك يجري من فم المرسل إلى أذنيه. وهذا المسلك يمتلك ثلاث دوائر ( دائرة المعلومات الأساسية, دائرة المراقبة ودائرة التوجيه ) تعمل بشكل اعتيادي, ولكن لا تعمل هنا دائرة بناء القوالب اللغوية. وان هذه الدائرة لا تعمل عند الصغار ولا عند كبار السن وكذلك في مجال التركيبات المفتوحة(6). إن هذه الدائرة محايدة. إننا لا نستطيع اكتساب بصورة عامة, واللغة الأجنبية بالاستناد إلى نطقنا الخاص.وعندما يحصل ذلك فانه من الصعب بناء القوالب اللغوية والصوتية بأسلوب مناسب. صحيح إننا ننطق اللغة في البداية بشكل غير مناسب وكذلك نخطأ في استخدام التركيبات الأخرى, ولكن هذه الأخطاء وسوء الاستعمالات لا توجد لها تأثيرات في بناء قوالب صحيحة. إننا نبني القوالب الصحيحة بالاستناد إلى دائرة البناء في القناة التي تصل المستقبل بالمرسل. وهنا نتذكر أن نطقنا ليس دائما منفذا جيدا لنظامنا الصوتي الخاص !!!!.
إن هذه المعلومات القيمة التي أكدها لنا العالم المذكور لا يمكن قبولها بدون تحفظ. صحيح أن بناء القوالب اللغوية لا يتم بدون مساهمة القناة التي تصل المرسل بالمستقبل, وأن الأطفال المحرومين من الاتصال بالأشخاص الذين ضبطوا اللغة لا يستطيعون تسلم اللغة بأنفسهم, أي إننا نتعلم اللغة في عملية الاتصال الاجتماعي, لكن قوالب النطق هي نتاج مشاركة المتعلم. فبناء قوالب الأصوات تتشكل من خلال مساهمة دائرة بناء القوالب والتي تعمل في القناة الجارية من الفم إلى أذن المرسل, وكذلك بمشاركة القناة التي تصل الحزمة النطقية بالمركز اللغوي في الدماغ, الذي سوف نتحدث عنه.
الدائرة الثالثة للمراقبة تقوم بعملية التدقيق في تحويل الايعازات العصبية النطقية, وهذه الدائرة تعمل في القناة التي تصل الحزمة النطقية بالمركز اللغوي في الدماغ. وان في هذه القناة تعمل فقط دائرة المراقبة, أما دائرة المعلومات النووية ودائرة توجيه المعلومات فهما معطلتان.
أما الحزمة الدماغية ( المركزية ) التحويلية فيصفها الكاتب المذكور على النحو الآتي: في هذه الحزمة تنجز مختلف أشكال التحويلات, وتخضع لعملية التحويل هذه ليس فقط الإشارات وإنما أيضا الرموز اللغوية, كما يخضع هنا للتحويل كل السلسلة الخطية للرموز اللغوية. إن هذا المركز يمتلك قوالب تحويلية خاصة, توظف في خدمة تحويل الإشارات وكل الرموز اللغوية. إلى جانب هذه القوالب التحويلية فان هذا المركز يمتلك قوالب تخزين, حيث تخزن هنا كل التركيبات اللغوية, بما فيها المورفيمات والمفردات وجزء من العبارات المكررة, ولكن هذا المركز لا يخزن الموضوعات, وكذلك لا يخزن الجمل الثابتة, لكنها تخزن بشكل أو بآخر مضمون الجمل والموضوعات. كما أن التخزين هنا يكون بصفة عامة حيث تمحى التفاصيل مع مرور الوقت وحتى جوهر مضمون الموضوعات, أي أن الإنسان ينسى ببساطة محتوى الموضوعات. ولتسهيل تذكر محتوى الجمل تستخدم طريقة السجع الشعري لحفظ الموضوعات لفترة أطول وبشكل أدق. ولكن هذا لا ينطبق على النثر. ويتكون هذا المركز اللغوي من نقط تنظيم مراقبة وتوجيه للمعلومات, وتوجد هنا اللوغاريتمات الكلامية في ميدان محتوى الرموز اللغوية والإشارات. وأخيرا تنجز هنا مختلف أشكال التحويلات بمساعدة قوالب تحويلية مناسبة. إن مهمة المركز اللغوي ربما تكون هي بناء اللوغاريتم الكلامي والذي تظهر وفقا له مختلف التحويلات, بهدف بناء موضوعات ملموسة !!!.
ويحدثنا زابروتسكي في دراسته عن المخزن الخارجي, إذ يرى أن الكتابة تشكل أحد مظاهره التعبيرية الهامة دائما, وهو يعتقد أن الكتابة ينافسها اليوم أشرطة التسجيل والأفلام وذاكرة الحاسوب الآلي وما شابه ذلك, ويرى إن المخزن الخارجي تخزن فيه بشكل مباشر الاستمرارية الخطية للرموز اللغوية, ولا تخزن فيه بشكل مباشر منظومة النماذج اللغوية. إن هذه الوظيفة يقوم بها المخزن الداخلي !!!.
وينهي زابروتسكي ملاحظاته الخاصة بتحليل عمل منظومة الاتصال اللغوي الكلامية بالإشارة إلى موضوع الشفرة ( كود ), وهو يميل إلى الاتفاق مع وجهات نظر علماء التحكم الذاتي الذين يتعاملون مع الشفرة بأنها قواعد تحويل الوعاء ( المادة ) الناقلة للإشارة. ويؤكد العالم المذكور أن هناك ثلاثة شفرات تعمل في منظومة الاتصال اللغوي: الشفرة التحليلية, الشفرة التركيبية, وشفرة المراقبة. إن الشفرة التركيبية تستخدم في حديث المرسل, والشفرة التحليلية من قبل المستقبل, كما أن الشفرة التحليلية تستخدم من قبل المرسل كشفرة ضبط. أما بالنسبة للمستقبل فان شفرة الضبط هي الشفرة هي الشفرة التركيبية. إن الشفرة التحليلية هي شفرة أساسية وأولية بالنسبة للشفرة التركيبية. ومن استطاع ضبط الشفرة التركيبية سيكون بالتأكيد قادرا على ضبط الشفرة التحليلية !!!!.
ويتحدث الكاتب عن منظومة الوعاء ( الوسط ) الكتابي الناقل, حيث يقول بان هذه المنظومة مرتبطة بشكل وثيق مع منظومة الاتصال اللغوي الكلامية. ويعرض عملية القراءة والكتابة بالشكل الآتي: نحن عندما نقرأ نستخدم الشفرة التحليلية كشفرة أساسية, وكالعادة نستخدم الشفرة التركيبية كشفرة مراقبة. فنقوم بتحويل الإشارات الكتابية إلى رموز كتابية, ومن ثم إلى اصغر الوحدات المجردة ( الفونيم ) وبالتتابع إلى أصوات. وفي حالة القراءة الصامتة لا تحصل عملية تحويل الفونيمات إلى أصوات, لأن الايعازات النطقية تجري إلى القناة النطقية ولكنها لا تنفذ بصيغة حركات مناسبة للأعضاء الكلامية.
وعندما نكتب فإننا نقوم بعملية تحويل للمظهر الكلامي إلى مظهر كتابي لها, ونقوم هنا باستدعاء المادة اللغوية والإشارية من المخزن الداخلي. أما في القراءة فان المادة اللغوية تستدعى من المخزن الخارجي وهو اختلاف جوهري بين القراءة والكتابة. وهذه المنظومات تختلف فيما بينها بطريقة أساسية, حيث تتعطل أو تغلق أثناء الكتابة عملية استدعاء المادة اللغوية من المخزن الداخلي لأغراض التنفيذ الصوتي. وعندما نكتب نستخدم الشفرة التركيبية لمنظومة الاتصال اللغوي الصوتية وكذلك الشفرة التركيبية لمنظومة الاتصال اللغوي الكتابية. وبنفس الوقت نستخدم الشفرة التحليلية كشفرة مراقبة !!!.
وفي عملية القراءة يستدعى المخزن الخارجي ( الموضوعات المكتوبة ), حيث تحول الإشارات الكتابية إلى إشارات صوتية. إن الرموز هنا لا تخضع للتغير, ولكن في بعض الأحيان تحصل بعض التغيرات الناتجة من انعدام التطابق بين القطع الكتابية وما يناسبها صوتيا في المخزن الداخلي. وغالبا ما تختلف منظومة التشفير الداخلية قياسا إلى منظومة التشفير الخارجية في مجال المفردات.
وتجدر الإشارة هنا انه لا يوجد اتصال مباشر بين المخزن الداخلي الكتابي والتنفيذ الكتابي في هيئة كتابة. فعندما يشرع المرسل بكتابة الموضوع فانه يقوم بتحويل الإشارات الصوتية إلى إشارات كتابية, وهذه الأخيرة هي التي تنفذ الموضوع ماديا. إذن لا توجد منظومة للاتصال اللغوي ـ الكتابي يمكن أن تتعارض مع منظومة الاتصال اللغوي الصوتية, أي أن الإنسان لا يستدعي من المخزن الداخلي نفس الرموز الكتابية لكي يحولها إلى إشارات كتابية. ولكن المخزن الصوتي يشترك هنا كمخزن أساسي. حيث يقوم بوظيفة المخزن الداخلي الأساسي. ويعتبر هذا المخزن مخزنا أصليا بالنسبة للمخزن الداخلي الكتابي.
ويمكن عرض هذا الموضوع بشكل آخر : فعند الإفراد ذوي الصمم الولادي مثلا, يقوم عندهم المخزن الداخلي الكتابي بوظيفة المخزن الأساسي, أي انه يكون بمثابة مخزن أصلي. إن المخزن الكتابي الخارجي يقابله مخزن كتابي داخلي ملائم له يقوم بعمليات تخزين لأصغر الوحدات الكتابية المجردة, والتي تعبر بدورها عن اصغر الوحدات اللغوية ( الفونيم ), والمورفيمات, والمفردات وغالبا العبارات المكررة, أي كل العناصر التي يمتلكها المخزن الصوتي الداخلي. إن المخزن الكتابي الداخلي هو كالمخزن الصوتي لا يخزن العناصر الكتابية مرتبة بصيغة جمل أو موضوعات, وقد يحصل ذلك عند الأفراد الذين يمتلكون ذاكرة بصرية خارقة, ولكن ما عدا هذه الحالات يبقى نطاق حفظ الاستمرارية الخطية للموضوعات محدودا !!!.
وينشأ هنا أيضا تساؤل: هل الناس الذين يقرأون كثيرا ولديهم ذاكرة بصرية متطورة لا يستطيعون استخدام المخزن الكتابي كمخزن أساسي ( أصلي ). الإجابة هي أن هذه الحالة يمكن أن تحدث بحيث يبتعد المخزن الكتابي من دائرة تأثير الموقع الأساسي للمخزن الصوتي. وهنا أيضا نتساءل: هل نتجاوز في الكتابة التحويل الصوتي للوحدات اللغوية المختارة من المخزن الكتابي ؟.
ويتحدث زابروتسكي عن وظيفة الدوائر في عملية القراءة والكتابة, ففي أثناء القراءة الجهورية تكون دائرة المعلومات المراقبة والموجهة فاعلة في المسلك الذي يجري من الفم إلى الأذن. وعندما تكون القراءة الجهورية غير موجهة إلى المستقبل أو في حالة عدم الاهتمام بضبط استجابة المستقبل, فان وظيفة مسلك المرسل ـ المستقبل تكون غير فاعلة. وفي عملية الكتابة, حيث المسلك يجري من الدماغ إلى أصابع اليد, تنشط هنا ثلاثة دوائر, أي دائرة بناء القوالب وهي الدائرة الإضافية. والى جانب المسلك المذكور فهناك المسلك البصري, حيث تنشط فيه دائرة المراقبة والتوجيه. أذن نستخدم في عملية الكتابة دائرتي مراقبة, أولهما تعمل في قناة الدماغ ـ الأصابع, والثانية في القناة البصرية. وان دائرة المراقبة البصرية هي دائرة مراقبة أساسية !!!.
إذا كانت النتائج المباشرة للدراسة في حلقاتها الثمانية تكمن في فهم عملية التخاطب اللغوي من حيث: جذورها الفسيولوجية ـ التشريحية والإنمائية والشروط الواجبة لحدوثها ومن ثم الوظائف التي تؤديها هذه العملية والمظاهر الاضطرابية التي قد تعيقها في تأدية مهماتها, فأن ذلك يذكرنا من جانب آخر بالتأثير العظيم للكلام على تطور الأنشطة والفعاليات الاعتيادية للمجتمعات البشرية. فحيثما يلتقي الناس فأنهم يطورون نظاما للتخاطب, مستندين في ذلك إلى مقومين أساسين لهذه العملية: أولهما المقوم الفسيولوجي ومرونته الهائلة والذي يشترك فيه جميع أفراد الجنس البشري, وثانيا الجانب الاجتماعي ( البيئي والثقافي ) الذي يحدد محتوى الأول ويزج به في دائرة النشاط. ويتنوع الثاني تنوعا هائلا ومعقدا يعكس درجة تعقد المجتمعات وثقافتها المختلفة ودرجة رقيها. وكلا الجانبين ( الفسيوتشريحي والاجتماعي ) يشكلان مقدرة إنسانية خالصة, منحت الإنسان أهليته لتصدر سلم التطور البيولوجي والوقوف على قمته. ونستطيع أن نقول بكل ثقة إن تطور الحضارات الإنسانية وتمازجها كان ثمرة لمقدرة الإنسان على المشاركة في التجارب الإنسانية, وفي تبادل الأفكار ونقل العلوم والتكنولوجيا ـ أي من خلال مقدرة الإنسان على مخاطبة الآخرين. وتلك هي مهمة المنظومة الكلامية !!!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شرح لبعض المفاهيم الواردة في الحلقة الثامنة والأخيرة:

(1) السيبرنيتكا: وهو علم دراسة آلية الضبط في الآلات وفي الكائنات الحية وهو وثيق الصلة بالهندسة وعلم النفس والفسيولوجي والاقتصاد والطب وغيرها من مجالات المعرفة العلمية.
(2) التغذية الراجعة أو المرتدة: وهو مصطلح تتداوله التربية وعلم النفس, والفسيولوجي, وعلوم الاتصال, والعلوم الاجتماعية والفيزياء والكيمياء, والجيولوجيا والهندسة والفنون ....الخ, ويعني معلومات عن الأداء الحالي تؤثر على الأداء اللاحق, وقد تكون عبارة عن استجابات من زميل في الصف أو المعلم. أو هو أشارة يتلقاها الفرد عن نتائج سلوكه أو اتصال بصورة مباشرة أو غير مباشرة يتيح له معرفة أثر أو نتيجة سلوكه أو اتصاله. وهو بصورة عامة طريقة في تنظيم المدخل بربطه بالمخرج ( على مستوى الإنسان والآلة والمنظومة الالكترونية ), فعلى سبيل المثال فان المنظم الحراري في بيت ما ينظم المدخل بالاستجابة السلبية إلى زيادة المخرج. أما بالنسبة لعملية الاتصال اللغوي فهي تعني ( على المستوى الفردي ) أن المرسل هو في نفس الوقت مستمع لنفسه, حيث يسمع حديثه أثناء الإرسال ويقوم بإجراء التعديلات الذاتية عليه. أما على المستوى الاجتماعي فهي رد فعل المستمع للمتكلم من انفعالات وملامح وإشارات وتعليقات تؤدي بدورها إلى ضبط فعل الإرسال لإنجاز أهدافه المحددة. وبصورة عامة فان التغذية الراجعة تعني أية معلومة راجعة من مصدر ما تفيد في تنظيم السلوك وضبطه.
(3) دائرة المعلومات الأساسية: تعتبر هذه الدائرة رئيسية, حيث يتم من خلالها تأثير النظام الموجه في النظام الموجه. أما بقية الدوائر ( دائرة المراقبة والتوجيه ) فأنها تقوم بنقل المعلومات لخدمة النشاط المناسب للدائرة الأولى, أي إن معلومات الدائرة الثانية والثالثة هي بمثابة معلومات واصفة ( معلومات ماورائية ـ ميتاانفورميشن ) لأنها تحمل لنا المعلومات حول موضوع دائرة المعلومات الأساسية. ففي عملية التدريس ـ على سبيل المثال ـ يقوم المدرس بتشغيل دائرة المعلومات الأساسية ( بإرسال معلوماته الخاصة حول مادة الدرس المعني إلى الطلاب ), وتكون الاختبارات المختلفة وإجابات الطلبة واستجاباتهم السلوكية هي بمثابة دائرة مراقبة, حيث تقوم بإخبار المدرس عن مدى استيعاب المعلومات المرسلة إليهم ويقوم المدرس في ضوء المعلومات التي حصل عليها بتعديل أسلوب تدريسه أو تقديم شروح إضافية. وتقوم بهذه المهمة دائرة المعلومات الأساسية مع دائرة التوجيه.
(4) المنظومة الخطية: ونعني بها تتابع المكونات اللغوية الواحدة بعد الأخرى للموضوعات المرسلة بمختلف أشكالها: شفوية أم كتابية, بشكل خطي وفقا لترتيب معين وهذه سمة تنطبق على اللغة في المستويات الصوتية أو الحرفية( في حالة الكلام أو الكتابة) والصرفية والنحوية والدلالية.
(5) التركيب المغلق: وهو التركيب الغير قابل للتوسع عن طريق التعويض أو الإضافة, كما هو الحال بالنسبة للأصوات والجانب الموسيقي في اللغة ( النغم, النبر, الإيقاع ).
(6) التركيب المفتوح: هو تركيب يمكن توسيعه بالتعويض أو بإضافة عناصر جديدة إليه, ويشمل مثلا المفردات وتراكمها المستمر والتعبيرات المختلفة التي تستحدث من خلال الحاجة إليها والتي لا حصر لها.