المنبرالحر

اصلاحات الحكومة وغياب قاعدة التشريعات المنظمة لها / هادي عزيز علي

التفكير بالاصلاحات لا بد ان يكون مقترنا بمنظومة تشريعية تلبي حاجتها وتنظم اعمالها وترسم الطرق لها، وكمثال على ذلك فعندما قررت ثورة 14/ تموز 1958 اجراء اصلاح زراعي، وقبل المباشرة به او التهيئة له فانها اصدرت قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة، والامر ذاته بالنسبة للدول الاوربية التي كانت تشكل جزءاً من النظام الاشتراكي السابق فعند تحولها الى اقتصاد السوق باشرت في سن التشريعات التي تنسجم مع التحول الجديد الذي حل بها، لان المنظومة التشريعية الاشتراكية لم تعد تتلاءم والوضع الجديد .
اما الحكومة لدينا فقد طرحت حزمة الاصلاحات مع ما يملكه البعض من رؤى عنها ولكن تلك الاصلاحات لم تقترن بمنظومة تشريعية تسندها او تشرعن لها. فهل ان الحكومة تعتقد ان النافذ من التشريعات يلبي حاجة الاصلاحات ام هي متخلفة عنها؟ للاجابة عن هذا السؤال نمر سريعا على النافذ من التشريعات وبالشكل التالي:
فلغرض الوقوف على الموقف القانوني للنافذ من التشريعات نبين ان النافذ من القوانين حالياً ثلاثة انواع:
- الأول - هو تشريعات النظام السابق وهي طبعا محكومة بنص المادة 130 من الدستور التي تنص على: (تبقى التشريعات النافذة معمولا بها، ما لم تلغ او تعدل، وفقا لأحكام هذا الدستور).
- النوع الثاني - من التشريعات هي التشريعات التي اصدرتها سلطة الائتلاف المؤقتة منذ بداية الاحتلال ولحين مغادرة رئيسها التنفيذي بول بريمر.
- اما النوع الثالث - هي القوانين المطلوبة بموجب احكام الدستور.
سنحاول الوقوف باختصار على كل نوع من هذه الأنواع بغية الوقوف على مدى امكانيتها لتقديم السند القانوني للاصلاح.
النوع الاول - تشريعات النظام السابق: ان الكثير من تشريعات النظام السابق قد صدرت استجابة لقانون الاصلاح القانوني رقم 35 لسنة 1977، المستمد أفكاره من التقرير السياسي للمؤتمر القطري الثامن لحزب البعث، التي اعتبرت ان التشريعات الاقتصادية والتجارية والتشريعات المدنية هي ليست الا اختيارات للقيادة السياسية ترجمت بقواعد قانونية وفق تصور معين لواقع المجتمع وصيرورته. ولكي لا تخترق هذه التشريعات، فقد اوجبت احترامهاعن طريق وضع تشريعات جزائية لكل من يحاول التجاوز عليها. وعلى اساس ذلك شرعت القوانين المستندة على قانون اصلاح النظام القانوني.
لذا فان مهمة التشريعات الاقتصادية، في ضوء ذلك الفهم، هو ضبط حركة النشاط الاقتصادي بغية الوصول إلى الأهداف التي تحددها القيادة السياسية آنذاك، من أجل أداء وظيفتها التنظيمية، باعتبارها أداة بيد السلطة للتوجيه والقيادة والسيطرة على العمليات الاقتصادية والاجتماعية. وبموجب هذا الفهم فقد حدد القانون أهداف التشريعات الاقتصادية والتجارية والمدنية التي جاءت بمباديء عدة منها: اعتبار ملكية الدولة الشكل القيادي للملكية العامة، ولزوم ملاءمة الملكية الخاصة لمستلزمات البناء الاشتراكي، وتوسيع نطاق الملكية العامة لتشمل أموال الدولة والتعاونيات، وتحديد نطاق الملكية الخاصة لوسائل الانتاج. كما ان حقوق الملكية الخاصة لوسائل الانتاج لا تبيح للمالك اتلافها أو تغيير صفاتها لغير الغرض المقرر لها، وفي الحدود التي يعينها القانون. كما أجاز القانون تحويل الملكية الخاصة إلى ملكية عامة وعدم جواز العكس.
ولعل واحدا من أهم المباديء المعتمدة في تلك التشريعات هو تغليب العلاقة القانونية على العلاقة العقدية، وهذا يعني تقييد مبدأ (العقد شريعة المتعاقدين)، ان لم يكن الغاؤه. وهذا التوجه مخالف لأدبيات قانون العقد الذي يعتبر العمود الفقري لكافة النشاطات الاقتصادية في عالم اقتصاد السوق. ولأهمية العقد ومكانته اقتصادياً نذكّر ما قاله (أي، ألان فارنسولت) الشخصية القانونية الأمريكية اللامعة عن العقد: (... قانون العقد اطار قانوني يخلق فيه الطرفان الحقوق والواجبات الخاصة بهما عبر الاتفاق، تمنح المجتمعات المتقدمة أطراف التعاقد سلطات واسعة لتشكيل علاقاتهم في ظل مبدأ استقلالية الأطراف، أو حرية التعاقد ...). وضمن هذا الفهم لمكانة العقد في اقتصاد السوق يبدو العقد في قانون اصلاح النظام القانوني لا قيمة له أمام ما ترسمه السلطة من قوانين وأوامر ونواه وقيود تعطل أحكامه، وتعطل أي جهد يتوجه نحو الاصلاح، ما دامت النصوص القانونية النافذة معطلة لها. وهذا يعني ان المباديء الواردة في النافذ من القوانين المشرعة في حقبة النظام السابق لا تنسجم مع اقتصاد السوق وحرية التعاقد
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فهناك نصوص قانونية - نافذة - طاردة للاستثمار، خاصة الاستثمار الأجنبي، إذا لم يتمكن قانون الاستثمار النافذ من معالجتها، ومنها على سبيل المثال أحكام (التحكيم) الواردة في الباب الثاني من الكتاب الثالث من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل، اذ ان تلك الأحكام وخاصة المتعلقة ببطلان التحكيم لا تمكن أي أجنبي من القدوم على أي مشروع في العراق، إذا اطلع على مضمونها، وهذا قيد أخر من القيود التشريعية التي تقيّد الاصلاحات.
النوع الثاني من التشريعات وهو ما اصدرته سلطة الائتلاف المؤقتة من تشريعات، انصب القسم الغالب منها لموضوع العدالة الانتقالية حسب فهم المحتل ومصلحته وفلسفته لهذه المرحلة. وليس من بينها ما يسهم في البناء المؤسسي الاقتصادي للدولة . وعلى سبيل المثال: المفوضية العراقية لدعاوى الملكية، وتشكيل وزارة للمرحلين والنازحين، أو البرنامج الخاص بمنح المكافآت لمن يقدم معلومات تؤدي إلى استعادة ممتلكات الدولة، أو متطلبات التسجيل للشركات الأمنية الخاصة، أو تشكيل المحكمة الخاصة لمحاكمة رموز النظام السابق. هنا لجأت سلطة الائتلاف إلى العدالة التقليدية أي سلطة المحاكم بدلاً من العدالة الانتقالية المعروفة في العالم كجنوب أفريقيا مثلاً. وتشريعات أخرى كأخلاء الممتلكات العامة من شاغليها بصورة غير مشروعة، أو تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث، أو ادارة الممتلكات العراقية واستخدامها، وسواها من التشريعات الأخرى التي لم تضع الأسس المطلوبة لبناء الدولة، ولم تسهم في إيجاد فرص للاستثمار، أو العمل. وهذه المجموعة من التشريعات للمرحلة تلك، لم يكن من بينها ما ينفع لدعم الاصلاحات المطروحة من قبل الحكومة للأسباب المذكورة أعلاه .
النوع الثالث هي التشريعات المطلوبة دستورياً: لقد انتهت العديد من مواد الدستور بعبارة: (وينظم ذلك بقانون)، اي ان عدد القوانين التي الزم الدستور تشريعها يبلغ عددها (67) قانوناً، وهي القوانين المؤسسة للدولة على وفق الفلسفة التي تبناها الدستور المذكور. لكن مجلس النواب، ومنذ تأسيسه وبدوراته المختلفة، لم يصدر منها سوى (19) قانوناً، وهذه نسبة قليلة جداً قياساً لما هو مطلوب. خاصة اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان الاهم من تلك القوانين منعت المحاصصة صدورها كقانون النفط والغاز وقانون مجلس الاتحاد وقانون حرية التعبير وسواها من القوانين الاخرى . هذا العوز التشريعي للقوانين المطلوبة دستورياً يحبط محاولات الحكومة في انجاز اصلاحاتها، كونه يجعل مبادرات الاصلاح محرومة من غطائها التشريعي، يضاف إلى ذلك ان الـ (19) قانوناً الصادرة - المشار اليها اعلاه- قد شرعت ضمن مخاض عسير للمحاصصة المقيتة، مصحوباً بضعف التأهيل المهني للعملية التشريعية والعوز المعرفي المطلوب لآليات التشريع، فقد خرجت للنور غير مستوفية لأسباب التشريع، وفاقدة لحبكة الصياغة القانونية المطلوبة، وفي قسم منها غير منسجم مع النافذ من القوانين.
أما الغالب من التشريعات الأخرى المنجزة من قبل مجلس النواب، فتتعلق بالتصديق على الاتفاقيات الدولية أو القوانين المتعلقة بالغاء قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل، أو تعديلات لقوانين نافذة أو قوانين أخرى تتعلق بامور تنظيمية. وباختصار فان ما تم تشريعه من قوانين طيلة الدورات الانتخابية، لا يسعف الحكومة في انجاز اصلاحاتها، والمطلوب قاعدة تشريعات رصينة تمكّن الحكومة من المباشرة بالاصلاح، وغياب تلك التشريعات يجعل الاصلاحات فاقدة لمشروعيتها.
لذا يكون المطلوب العمل على منظومة تشريعية تنسجم مع اهداف الاصلاحات، كقانون جديد للاستثمار غير الموجود حاليا المشرع على مقاسات البعض، مع لزوم صدور قانون جديد للتحكيم ينسجم مع التحول في الاقتصاد بدلا من الركض وراء غرفة باريس او غرفة لندن للتحكيم او سواها من الغرف العالمية الاخرى، كما يلزم اعادة النظر في مفهوم العقد لا بصفته مجرد علاقة بين الطرفين، بل باعتباره اداة انثروبولوجية تدفع تقدم المجتمع الى الامام.
لذا فغياب التشريعات الساندة للاصلاحات يجعل الاصلاحات تلك بعيدى المنال.