المنبرالحر

هل نحن في دولة مكونات أم دولة مواطنة؟ / جواد وادي

تتبعثر أوراق العراق وملفاته يوما بعد آخر، وتتعاظم الأسئلة التي لم نجد لها مخرجا، والوقت يمر مسرعا على سكة الخراب، ولا من يلتفت قليلا إلى الوراء بوازع وطني أو أخلاقي أو بوخزة ضمير، ليوقف ذلك النزوع الذاتي من العبث بالبلد ومقدراته وسمعته، الذي بات هو الغالب في سلوكات المسؤولين، والإصرار على تخريب كل شيء، وحتى البعيدين عن السياسية ولكنهم اختاروا أن يعيشوا ضمن دائرة الخراب وتعطيل كل مجساتهم باتجاه مراجعة الذات التي باتت حبيسة النزوات الخبيثة التي لا تتعدى دائرة الاستحواذ على أكبر قدر من السحت الحرام من أموال الفقراء والمحتاجين وعدم السعي لإعادة بناء البنى التحتية التي لم تعد مخربة فحسب، إنما بات من العصي حتى ترميمها، لهول الركام الذي عاد سمة الشارع والمحلة والمحافظة والعراق برمته، ولا من وقفة محاسبة حتى وإن كانت بسيطة لمراجعة ما يحدث، والكف عن اطلاق أياد لا تعرف للنور طريقا، لأنها استوطنت في غياهب النهب والسطو والأقبية المظلمة وافراغ ميزانية البلد، دونما وقفة بسيطة وبوازع أخلاقي، لمعاينة حجم الخراب.
هل أن ضمائر اللصوص وصلت إلى هذا الحد من الموت السريري المقصود، وكلما نهضت منطقة في تكوين الضمير الميؤوس من يقظته، واجه لطمة تسكته عن ذرف الدموع على ما يجري، ومواصلة الاستحواذ حتى على أموال الذين يسكنون في العراء، ولا من سبيل لسد رمقهم، أو من لفتة تقيهم ظروف الحياة القاسية، سواء كانوا مهجرين، أو مطرودين قسرا، أو ممن لا يملكون كسرة خبز من فقراء العراق الذين يعتاشون على الفضلات ليصبحوا يشكلون السواد الأعظم.
ونحن مدينون لوسائل الاعلام،عراقية نزيهة كانت، أم عربية، أم دولية، لما يصلنا من أخبار تعبر وبشكل لا يدع للمتبجحين بالدين والقيم والأخلاق بهتانا، التنكر لها وعن حجم الكارثة التي لا يبدو أنها ستتوقف، لا في الوقت المنظور ولا الأبعد، لكثرة ما تتراكم يوميا من براثن، لتصبح تلالا من الخيبات التي يصعب تجاوزها حتى وإن جرى التغيير لزحزحة روث الأرض من سلطة القرار الذين تشبثوا به وبقوة بطريقة لا تبتعد كثيرا عما كان البعث يسعى إليه من إزاحة كل ما يعيق تشبثه بالسلطة لتصبح حقا أزليا لا نقاش ولا شك ولا تراجع فيه، حتى وإن كلف ذلك إزالة العراق من الخريطة، لتبقى ما يشبه المنطقة الغبراء مصدر القرار ومركز الحكم. لا أبعد من ذلك، وهل نسي من نخرت الدونية عقولهم، قول ابن "العوجة" في الفاتح من كانون الثاني (يناير) عام 1979 ما أن نصب نفسه حاكما بأمر الله والبعث والقومية الشوفينية على العراق خالدا دون منازع، بقوله الذي لم يعره مثقفو وساسة السحت الحرام من عرب واعاجم وعراقيين أدنى اهتمام رغم خطورته، وأخذ الدروس البليغة منه، (بأننا، يقصد هو وأزلامه، سنترك العراق أرضا محروقة بلا شعب إذا ما اضطررنا للرحيل عن السلطة)، وكأنها ملك "الخلفوه". والنتيجة ماذا كانت؟
أليس ما يحصل الأن هو ذات الوضع الذي كان العراقيون عليه أيام سطوة البعث بجرائمه وتصفياته وبلاويه، مع بعض "الميك آب" الذي يخفي بعض الملامح المشوهة في مظهر العملية السياسية الرثة بكل تفاصيلها.
لا تغيب للحظة واحدة، تلك الوجوه الكالحة عن الظهور على الشاشات التلفزية، لتتبجح بكل غباء وسفالة عن الدفاع عن المكون، فهذا ابن المنطقة الغربية، يدافع عن حقوق مكونه، كما يفعل ابن البصرة والعمارة والكوت وسواهما من بقية مناطق العراق المنكوبة، ولا يترددون عن الكلام عن مكونهم الذي ينبغي حسب رأيهم الذي نخره الزيف، عن الحق المشروع لهذه الطائفة أو تلك، أو هذا المكون أو ذاك، وكأننا في دولة طوائف، وكانتونات، ولسنا في وطن أسمه عراق، بكل تاريخه وحضارته وطوائفه وحضوره الذي كان مبعث فخر لنا جميعا. مع شعب عرف الكثير من المحطات الباعثة على الفخر، قبل أن يتعرض لمسخ البعثيين ومن ثم الفاسدين من الطائفيين وغيرهم.
ما الذي حدث لهؤلاء الأوباش حتى يصلوا إلى مرحلة التنكر للوطن وتغليب "حقوق" المكون على المواطنة التي لا تذكر على السنتهم الرثة إلا ما ندر.
هذه الحالات تتكرر يوميا كلما فتحنا فضائية عراقية، أو عربية، فتصفعنا هذه المصطلحات التي تخفي وراءها نوايا، حاشا للشيطان أن يتجرأ على التكلم بها، فماذا حدث إذن لتتحول هذه الإمعات إلى مرحلة فاقت بها فعل الأبالسة. والمصيبة أن كل النوايا مكشوفة، وعلى "عينك يا تاجر"، وكأني بهم كد أقنعوا أنفسهم أن لا بديل لهم إلا الاختباء كما الفئران، تحت جلابيب الطائفية والمحاصصة والمكون، لمجرد السرقة والحصول على الامتيازات المدافة بالخزي والعار، أما الوطن فلا شأن لهم به، لسبب بسيط، أن جلهم إما وصل إلى ذات الغباء البعثي، بأن زمن التغيير قد توقف عندهم، ولا شيء يحدث لاحقا، أو أنهم مهيؤون للفرار، إذا ما ضاقت بهم السبل، متأبطين جوازات سفرهم الأجنبية، بعد أن تيقنوا بأن وضعهم المالي قد استقر، ويمكنهم العيش برخاء، لأن أمر محاسبتهم مستبعد، انطلاقا من مبدأ، "إذا عمّت هانت"، بعد أن أصبحت جيوش السراق والناهبين للمال العام، لا عد ولا حصر لها، فمن يحاسب من إذن؟ ورحم الله الراحل خليل الرفاعي حين قال "ضاع الخيط والعصفور" في المسرحية الشهيرة.
الكارثة هي أن تصل الوقاحة والإيغال في الاستهتار، الاستيلاء على أملاك الدولة "المخربة أصلا"، وأموال الشعب، ومؤسسات الحكومة للعب بها "شاطي باطي"، دونما حسيب أو رقيب، لأن الجميع قد ركب ذات السفينة المبحرة نحو الهلاك، ولا طوفان يلوح في الأفق لإغراقها، لأن من يغرقها قد تخدرت عقولهم ووظف اللصوص كل ما بوسعهم لبناء جدران اسمنتية على أجساد الناس وشلوهم عن الحركة، بتوظيف الدين وطقوسه وشعائره، وحرفوها، قصدا لتمرير مشاريع النهب المخيف، وإبقاء أولاد "الخايبة في دار غفلون" كما يقول الأعزة المغاربة. بدل أن يستثمروا الشعائر لما لها من معاني إنسانية نبيلة لمحاربة الفساد والتلاعب بعقول الناس، وتحريف ما هو إنساني، يمكن أن يكون دليل عمل وبناء للوطن والإنسان، كما ثورة الحسين (ع)، ونزاهة إمام الحق (ع).
وظفوا كل هذه المبادئ بشكل يخدم مصالحهم الدونية، ليتركوا الحبل على الغارب.
فتبا لكل من يقامر بالوطن ومصالح الناس واطعام المحرومين، لقاء حفنة من أموال سيتركونها مصدر فتنة بعدهم، يوم لا يصطحبون معهم إلا مترين من الكفن الذي حتى هو ذاته سيلعنهم وهم في قبورهم ليبلى قبل وقته، رافضا أن يغطي أجسادا غير طاهرة.