المنبرالحر

في ذكرى شباط الأسود 1963 * / قاسم حنون

في ذكرى شباط الأسود 1963 تطلّ علينا بغداد ومدن العراق وقد وطأتها خطى الحرس الفاشي القومي يستولي عليهم سعار القتل على الشبهة والكراهية لكل ما هو وطني وتقدمي ، للشيوعيين والمدافعين عن الثورة على السواء ، سنصغي بتفجع وتعاطف حميم الى آهات وأنين المناضلين تحت سياط التعذيب، نصغي بألم الى استغاثة النساء العفيفات وهن يواجهن وحشية ذئاب مسعورة انفلتت في ليل بغداد البهيم على أجساد غضّة ومحصنة لترتكب الفعل الشنيع تحت مظلة (المشروع القومي الوحدوي) و(المثل العليا للأمة) ، نصغي الى أصوات المناشير وضربات الفؤوس والمطارق وهي تنهش الأجساد الحية بفظاظة المتوحش البدائي كأننا ازاء ارتداد مخيف نحو الأطوار الأولى للنوع الإنساني. نستذكر تلك القسوة المفرطة التي تبدى فيها قادة الانقلاب وأدواتهم في تنفيذ أعمال انتقامية يندى لها جبين الإنسانية ..ما كانت تلك الممارسات لتشذ عما سبقها من أعمال إجرامية نفذها شقاة ومجرمون في بغداد والموصل ومدن أخرى بدفع وتمويل من أعداء الثورة داخليا واقليميا ، نستذكر تلك اللمحات الإنسانية الخالدة التي اجترحها مناضلون ومناضلات في دهاليز التعذيب في النادي الأولمبي والنوادي الرياضية الاخرى في بغداد والمحافظات ، ما كان القائمون على التحقيق وممارسة التعذيب من رجال الأمن أو الشرطة، إذ لما يتبلور بعد جهاز متخصص تابع إلى سلطة الإنقلاب بل كان القائمون على الأمر من الهواة من موظفين أو طلبة جامعيين أو عاطلين ...الخ يدخلون مراكز التحقيق لإشباع رغبة الانتقام والتمثيل في الأجساد أو تجريب وسائل الفتك ،هكذا جعل البعث من إشاعة العنف خارج دوائر البوليس منهجا وطريقة حياة يتنقل منتسبوه بين أقانيم البوليسي والسياسي إذ لا تعارض بينهما ما دام الهدف واحدا ، وستمثل المنظمة الحزبية للبعث في سنوات قادمة الرديف لجهاز الأمن والمخابرات في تنفيذ مهام بوليسية ..سيمثل في قاعات التحقيق شتى الشرائح والفئات : أكاديميون وطلبة وأطباء ومهندسون وعمال وجنود وغيرهم .. قال محدثي : جيء بنا نحن طلاب الهندسة العسكرية في معسكر الرشيد وكان معظمنا من شيوعيين فتهلل الجلادون فرحا وهم يتنقلون من ضحية الى أخرى وكأنهم أمام مأدبة عامرة ، تفتق ذهن أحد المجرمين عن ابتكار شرير وهو يتطلع الى احد الجنود وكان ممتلئ الجسم معافى ..جيء به وأضرم موقد نار وضعت فيه سكين حادة حتى احمّرت ثم ربط الضحية واجتزأت قطعة كبيرة من مؤخرته وسط دهشة وذعر المحيطين، لم يطل الأمر حتى فارق الضحية الحياة في مشهد صادم وغرائبي لايعقل إلا في عالم الضواري والحيوانات المفترسة، بمثل ذلك انتهكت آدمية المناضلين الأفذاذ سلام عادل وجمال الحيدري وعبد الرحيم شريف وجورج تلو وحمزة سلمان و محمد حسين أبو العيس وعبد الجبار وهبي وغيرهم المئات ، نتذكر ريادة الإنقلابيين في المقابر الجماعية حين دفن عدد كبير من المناضلين في مقبرة مجهولة ببغداد بينهم الشهيد فيصل الحجاج الطالب في المرحلة النهائية في كلية الطب والعضو القيادي في إتحاد الطلبة العام إضافة الى جريمتهم بقتل الزعيم عبد الكريم قاسم والمهداوي ووصفي طاهر وطه الشيخ أحمد وغيرهم من دون مراعاة أبسط معايير الاستجواب والتحقيق فيما كانوا يتندرون على جلسات محكمة الشعب ويوصمونها بشتى النعوت والأوصاف، هل نتذكر كتاب ( المنحرفون ) الذي صدر في أوائل 1964 المتضمن قصصا ومشاهد مؤلمة عما كان يجري في قصر النهاية وغيرها من مراكز التعذيب التي يشرف عليها أقطاب البعث والنظام الجديد ؟ ما كانت تلك الجرائم استطرادا في سيرة البعث الدموية بل جزء حيوي في منظومته الايدلوجية والتنظيمية ، الاغتيالات بالمسدس أو باستخدام السيارات أو الثاليوم أو بوسائل مبتكرة أخرى ، وتصفية الخصوم بأحواض الأسيد أو بتجريب فعالية الغازات السامة بدلا من فئران المختبر في أعوام السبعينات والثمانينات ، وبدءا من شباط 1963 كان اختصاصيون من أطباء وكيميائيين وبايولوجيين يضعون خبرتهم تحت تصرف الجهاز الأمني . إذا كانت الفاشية والنازية في أوربا قد نشأت تعبيرا عن أزمة اقتصادية وسياسية وعن شروط وتوازنات ترتبت على نتائج الحرب العالمية الأولى فقد وجدت في ترسانة الفكر الفلسفي والإجتماعي منذ أواخر القرن التاسع عشر ما يعزز رصيدها الأخلاقي والسياسي ويوطد صلاتها بالشركات الكبرى لتكون زخما جديدا في المشروع الإمبريالي لاقتسام مناطق النفوذ والهيمنة على مصادر الطاقة ، إلا إن ما يجمعها والحركات الفاشية في بلداننا هو نزعة العداء الشديد للشيوعية التي استدرجت البعث وبعض فصائل الحركة القومية العربية رغم ادعائها الزائف بتبني الإشتراكية في المنظور الإقتصادي وهو نمط من رأسمالية الدولة التي تمثل المقوم المادي للدكتاتورية في إطارها الأيدلوجي والسياسي .. انقلاب شباط 1963 هو اللحظة التأسيسية للنظام الذي شيده البعث في أواخر الستينات وصولا الى سقوطه المدوي في نيسان 2003 ومازالت تجلياته واضحة في ممارسة الجماعات المسلحة للأعوام السابقة ،وآخرها المخلوق السادي المتوحش قي ما يعرف بداعش الذي تخلق عن مصاهرة البعث والأصولية المتشددة في انتاج خطاب معاد للإنسان والحرية والتنوع الثقافي .. القطيعة مع البعث والدكتاتورية لن تكون الا بديمقراطية حقيقية وتنمية اقتصادية وثقافية شاملة واعادة بناء جهاز الدولة العراقية والمراجعة النقدية الخلاقة لمنعطفات مهمة في تاريخنا المعاصر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قدمت في استذكارية اقامتها اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في البصرة بذكرى انقلاب شباط الاسود 1963