المنبرالحر

للملحدين الجدد مدينتهم الفاضلة أيضا ( الحلقة الأولى)/ قصي الصافي

تجنباً للالتباس وسوء الفهم يجب الاشارة الى ان المقالة لا تستهدف الالحاد تحديداً، وهي ليست دعوة للايمان الديني، انما هي محاولة نقدية للكشف عن الابعادالفكرية والسياسية لحركة الملحدين الجدد، التي أسسها وروّج لافكارها بنشاط حثيث كل من كرستوفر هيجنز و ريشارد دوكنز وسام هاريس وسوزان بلاكويل.
يزعم الملحدون الجدد ان خلاص البشرية يكمن في تطهير عقل الانسان المعاصر مما يسمونه بالفيروس الديني، وكلمة فيروس هنا ليست مجازية بل تعني ما تعنيه بيولوجياً حسب "نظرية" سوزان بلاكويل ، ويعدنا الملحدون الجدد بأننا سنلج عالماً جديداً تتلاشى فيه الاديان وتنحسر معها الاحقاد و الحروب، فالاديان مصدرها الوحيد حسب زعمهم، عالماً جديداً يحتكم فيه الانسان الى العلم الخالص، انسان يفكر ولا ينفعل، لا يلهمه الوعظ والاساطير والقصص اللاعقلانية، فهو قادر على تأسيس منظومته القيمية والاخلاقية بالاحتكام الى المنطق العقلي فقط، ( سوبرمان جديد نقيض لسوبرمان نيتشه .)
بينما ينشر الملحدون الجدد أشرعة العلم إبحاراً إلى مدينتهم الفاضلة، يتجاهلون ما استقرت عليه دراسات علم النفس و الابستمولوجيا التي تؤكد ان عقل الانسان ليس حراً مستقلاً بل تنازعه في تشكيل الأفكار وبناء المفاهيم شبكة معقدة من قوى خفية راسخة في العقل الباطن من عواطف وانفعالات ( أمل، خوف، قلق.... الخ) إضافة إلى ميول وانحيازات لا عقلانية تتشكل عبر تجارب الحياة الفردية والجماعية.
ولادة الانسان المتعلمن ( من العلم) ليست سوى صورة ذهنية متخيلة لا تقل طوباوية عن المتخيل الديني وفردوس حاكمية الله.
اليوتوبيات تصنع تأريخها المتخيل أيضاً، فالاصولية الدينية ترسم صورة للأسلاف لم يشهدها التأريخ يوماً، فمدينة الاسلاف يسودها العدل االمطلق والمساواة الكاملة ونقاء المثل والاخلاق، بيد ان الملحدين الجدد لا يترددون في اعادة تصنيع التأريخ الحديث ايضاً، فكرستوفر هيجنز ينكر اي أثر للايمان الديني على حركة غاندي ومارتن لوثر كينغ ولاهوت التحرير في اميركا اللاتينية، وماما تيريزا بالنسبة له مجرد إمرأة مخادعة، ويرى ان الدين مثل ينبوع يعب منه الناس سموماً، تحث فيهم روح الكراهية وحب القتل والحروب ، ولن يشهد العالم سلاماً إلابالقضاء على الاديان، وهو بهذا يتناسى مجازر وحروب القرن العشرين أكثر القرون دموية ، و قد كان مرتكبو تلك المجازر إما ملحدين أو غيرمتدينين ( هتلر، موسوليني، بول بوت ، ستالين، صدام.....الخ) . سام هاريس لم يستطع تلمس البعد القومي في مجازر ميلوسوفيتش ضد شعب البوسنه ويراها حرباً بين الاسلام والمسيحية.
يزعم الملحدون الجدد أن حركتهم حركة علمانية جاءت لتستكمل أهداف حركة التنوير الاوربية والتي أنهت سلطة المؤسسة الدينية، إلا انها لم تقتلع جذور الفكر الديني بشكل نهائي. فهل هم علمانيون حقاً؟
العلمانية تضع الدين ضمن فضاءه الخاص وترسم له حدوداً مقننة ليكون جزءٱ من الثقافة الاجتماعية لا حارساً ولا مهيمناً عليها، وبهذا يحيا المؤمن وغير المؤمن في تعايش سلمي عبر تنازلات مشتركة وتلاقح بين الدين والثقافة الاجتماعية أو الحداثة، وهذا ما يفسر الاختلاف الكبير بين رؤى وقيم الكاثوليكي الفرنسي ونظيره العربي، وبين المسلم السعودي ونظيره الامريكي أو حتى العربي، تلك الصيغة من الايمان يطلق عليها اوليفيي روا "الايمان الاجتماعي" ، الذي تتبناه المليارات من المؤمنين في المعمورة . يوضح اوليفيي رو ا في كتابه (الجهل المقدس) ان الاصولية الدينية تنشأ عند انسحاب جماعة دينية من ذلك التوافق غير المعلن مع الحداثة، بالرجوع الى الدين بحرفيته النصية على اعتباره نظاماً متكاملاً للحياة الاجتماعية والسياسية، فترفض اي تنازلات للحداثة على اعتبارها ثقافة وثنية، يجب معاقبة وتكفير من يرتضيها نظاماً للحياة وإن كان مؤمناً إيماناً إجتماعياً.
بالمقابل يعلن الملحدون الجدد حربهم ليس ضد الاصوليين فحسب بل ضد المليارات من المؤمنين، و تتلبس خطابهم عنصرية واضحة واستعلاء عرقيا، وعدوانية غير مسبوقة تصل حد الرغبة في إبادتهم نووياً. في كتابه (نهاية الاديان) يحبذ سام هاريس ضربة نووية استباقية ضد اي دولة اسلامية ستمتلك سلاحاً نووياً ، خشية ان تعمد إلى تدمير العالم بحكم النزعة الجهادية وحب الشهادة لدى المسلمين، و يضيف براحة ضمير (نعم سيقتل عشرات الملايين من المسلمين في يوم واحد، ولكن لا خيار لنا سوى استباق كارثة محتملة).
للدخول في لعبة الافتراضات والتي وضع هاريس قواعدها بقوله( علينا ان نتخذ التأريخ مرشداً) ، نقول لم نعرف شيئاً عن تأريخك المتخيل مستر هاريس، إلا ان التأريخ الحقيقي يخبرنا إن العدوان النووي على هيروشيما وناكازاكي قد اقترفته الولايات المتحدة على يد رئيسك روزفلت، والذي لم يكن مسلماً أو متديناً، وان الخزين النووي الاكبر في العالم قد يمتلك ازرار التحكم به مرشح الرئاسة الموتور دونالد ترامب. يبدو واضحاً ان هاريس قد تجاوز الاسلاموفوبيا إلى تبرير حروب اليمين المتطرف، ولا غرابة اذن ان يهلل لكتابه المحافظون الجدد وصقور اليمين والمنظمات المسيحية المتطرفة كحركة الحق المسيحي رغم الحاد الكاتب.
في مناظرة تلفزيونية جمعت كرستوفر هيجنز بأخيه بيتر المعارض للحرب في العراق خاطب كرستوفر الحضور قائلاً" لا يخدعنكم من يسمون انفسهم تقدميين باسم الانسانية، علينا ان نؤمن ونؤكد ونصر أن نفط العراق من حقنا نحن( يقصد الاوربيين)، إنظر الى العراق، إنه محاط بالوهابيه السنية المتطرفة من جهة وبالشيعية الايرانية المتطرفة من جهة اخرى .) مرة اخرى يصافح الملحدون الجدد صقور اليمين ويروجون لسياساتهم المدمرة، والملفت للنظر أن كرستوفر هيجنز قد وثب من التروتسكية الى مستنقع اليمين بقفزه واحدة.
يمكنك النجاة من انتقام الاصولية الدينية بالتوبة في حالة الاسلاموية، أو أن تولد من جديدجندياً للمسيح ينبذ الحداثة الوثنية وديمقراطيتها في حالة الاصولية المسيحية، أما الملحدون الجدد فلا توبة معهم، فأنت كمؤمن مصاب بفيروس ينتقل جينياً حسب "نظرية بلاكويل" وعليك
ان تنتظر تطوراً في الهندسة الجينية يطهر جيناتك، على أمل أن يحصل ذلك قبل أن يلقي على رأسك سام هاريس قنبلته النووية.
يتبع.
.