المنبرالحر

من يوميات منتفض.. إنتفاضة البصرة الكبرى/ ليث عبد الغني

الجزء الثامن
السبت المصادف 2 ذار المواق 15 شعبان 1991
"كان الليل مستبشراً بإكتمال بدره، يسرف في صرف ضوئه فتبدو الأشياء واضحة ظاهرة". اجتمعوا في الساعة الخامسة فجراً لينفذوا ما اتفقوا عليه. كانت الحيانية وسط البصرة هي التي أطلقت الشرارة الأولى،بينما الشعب البصري في جميع المناطق كان على هبة الاستعداد. اسلحة خفيفة واصرار رجال لا يعرفون الخوف، فكان هدفهم الاول هو منظمة حزب البعث الحاكم الواقعة عبر الشارع من منطقتهم باتجاه منطقة الجمعيات. وبعد قتال عنيف سقط فيه اول شهيدين بطلين كانا بعمرالزهور وهما الشابان الشهيدان سيد حسون والشهيد مشكور الدبسي. اكمل المنتفضون الآخرون مسيرتهم بأتجاه سجن البصرة بينما هب شباب المناطق الأخرى معهم ليتحول القتال الى تقاطع الكنيسة الذي يربط كلا من منطقة الحيانية ومنطقة الأصمعي ومنطقة الجمهورية وحي الرسالة، وحيث دارت معارك ضارية استشهد فيها عدد من المنتفضين الابطال بينما قتل فيها الكثير من ازلام النظام الفاشي. أما محيط المستشفى الجمهوري فقد هرب البعثيون منها ليتوجه الثوار الى مديرية أمن البصرة المجاورة لنادي الجنوب الرياضي وهناك اصبح الوضع خطيرا بعد أن تحررت من دنس المجرمين القتلة. فالهدف القادم هو مديرية الاستخبارات في الحسينية والمجاورة لمحكمة البصرة، وهذا المكان محصن ويحتاج الى اسلحة ثقيلة لو تمت المقاومة فيه. فأضطر بعض الثوار الى الذهاب الى بعض وحدات الجيش المكسورة المنسحبة من الحرب ليحصلوا على دبابة تبرع بها ضباط في الجيش لتسهيل مهمة المنتفضين . وهنا يجب ان نسجل موقف الجيش العراقي البطل من الانتفاضة، حيث لابد أن نفرق بين الحرس الجمهوري واجهزة صدام الامنية التي قمعت الانتفاضة وبين منتسبي الجيش العراقي المخلصين من أبناء الوطن الذين سهلوا أمر المنتفضين في أكثر من مكان في مدن الانتفاضة.هذا الحدث دليل ملموس على عمق الصراع الدائر بين الجيش واجهزة صدام العسكرية الخاصة، بالرغم من امساك القادة الموالين للنظام بالمفاصل الرئيسية للجيش.
لقد كان هناك في الطرف الاخرمجموعة من شباب الانتفاضة ترافقهم أمراة شابة اسمها سليمة الملقبة (سليمة ام سنون الذهب) تقاتل معهم جنباً الى جنب واقفة ببسالة على ظهر الدبابة متجهين الى مقر استخبارات البصرة. علماً أن البطلة سليمة قد اعدمت امام الملأ على يد المجرم علي حسن المجيد شخصياُ. القتال أمام مبنى الاستخبارات اصبح على اشده وهناك إمرأة تتقدم الشباب المنتفض لتقاتل معهم وهي تحمل مسدساً بيدها.
ابناء البصرة خرجوا بكل طوائفهم واقلياتهم ليشاركوا في هذه الملحمة البطولية الخالدة ،فهناك الشباب السنة الذين شاركوا بقوة والذين انسحبوا بعد ان تحررت المدينة بسبب الشعارات الطائفية، وهناك ايضاً مشاركون من الاخوة المسيح والصابئة المندائيين، وهناك نساء يلهبن حماس المنتفضين ومن بينهن الحاجة مالحة أم ( كريم حزام) في منطقة الحيانية حيث كانت توزع قطعاً صغيرة من قماشٍ اخضر اللون (علك) رمزاً روحانياً ليقوي عزيمة ابناء الانتفاضة. الاشتباك بين المنتفضين وبين ازلام النظام المتحصن في المبنى لم يستغرق ساعة حتى اضطر رجال المخابرات الى تسليم انفسهم وهم يرتدون ملابس مدنية ورياضية. وخرجوا سالمين لأن مبدأ المنتفضين هو من لا يقاتل يعفى عنه. وما ان دخل المنتفضون الى المبنى حتى وجدوا عوائل بينهم اطفال ونساء كانوا محتجزين في مبنى المخابرات. وما حدث بعدها من شئ غريب هو وصول سيارة مظللة نزل منها شباب يدعون انهم سادة من اهل البيت وقد ارسلهم السيد محمد باقر الحكيم رحمه الله بمهمة لكي يحافظوا على سجلات المخابرات من التلف فنقلوها بالسيارة الى جهة مجهولة. وما يثير استغرابنا هو ان مثل هذه الحادثة تكررت في المدن العراقية المنتفضة وهنا يجب ان نسجل هذه الحالة المثيرة والملفتة للتظر والتي لا يتسطيع احد منا حل لغزها سوى المجلس الاسلامي الاعلى. فأين هي السجلات؟ ومن هم السادة الذين كانوا يقودون مدن الانتفاضة بعد أن تتحرر بوصفهم مبعوثين من قبل المجلس الاسلامي الأعلى؟
الساعة اقتربت من الثانية عشر ظهراً لتتحرر جميع مناطق مدينة البصرة ومن ضمنها صوب التنومة.ليبزغ الفجر من حضن الألم والذل والعبودية والإنكسار وحزمة ضوء انتشرت على مدينة البصرة لتعلن حدثاً تأريخياً خالداً طرزه ابنائها الاحرار.