المنبرالحر

من يوميات منتفض الاجزاء 12،11،10/ ليث عبد الغني

الجزء العاشر
إنتفاضة الناصرية الخالدة
السبت المصادف 2 ذار المواق 15 شعبان 1991
رجال نزعوا الخوف من قلبوبهم متسلحين بإيمانهم بقضية الشعب ،وبالجرأة والإقدام والشجاعة. جاءوا الى الناصرية قادمين من مدينة سوق الشيوخ عبر بساتين السديناوية ، حيث هناك بمحاذات ضفة نهر الفرات كان كل شئٍ جميلا وهادئا. فالشمس كانت ساطعة و الأجواء ربيعية حاملة معها عبق ورائحة البساتين والارض الخضراء والتي منحت هؤلاء الرجال العزيمة والاصرار بتحرير الشعب من العبودية وذل البعثيين الحاكمين. كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرقبل منتصف النهار بقليل، و كان صديقي جواد ابو شحيمة في ذلك الوقت جالس وسط داره المقابل لمقر فرع ذي قار لحزب البعث الحاكم في وسط مدينة الناصرية. وفجأة سمع اطلاق نار كثيف قرب دارهم صادر باتجاه مقر الحزب المجاور للبيت فتيقن ان الانتفاضة في الناصرية قد أنطلقت. إنهم الرجال القادمون من سوق الشيوخ مسحلين ويقودون سيارات مكشوفة محملة بالمقاتلين.
صعد جواد الى سطح دارهم ليشاهد ما يحدث. فإطلاق العيارات النارية الصادرة من المقاتلين المنتفضين كان شديداً، أما الإطلاقات النارية المعاكسة ضدهم والتي يطلقها ازلام البعث المختبئين بالمبنى كانت اشد بأساً.
كان من بين المقاتلين منتفض يحمل قاذفة (ار بي جي 7) ويرتدي ملابس شعبية (دشداشة وجاكيتة كحلي اللون) وهويرتدي ايضاَ حزام مملوء بالعتاد. وجه ذلك المنتفض قاذفته بإتجاه هدف داخل المبنى. فرمى صاروخين اسكتت المكان. ومن حسن الحظ ان صديقي جواد ابو شحيمة يشاهد المعركة بشكل واضح، فوثقها بشكل دقيق لا يقبل الشك، وما لفت نظره بعد ان حل المكان سكون قليل هو أن مئات من المدنيين الذين اعتقلتهم السلطات الحاكمة لغرض التحاقهم بالجيش الشعبي لكي يدافعوا عن حكام المدينة خرجوا من احدى قاعات المبنى الى الباحة الخلفية وهم يخلعون ملابس الجيش الشعبي ويرتدون ملابس مدنية وقد بدأوا يتسربون بعيداً عن اطلاق النار من جهة رعاية الشباب.
استمر رمي اطلاق النار من قبل ازلام البعث المحصنين بالمبنى لكن هذه المرة تخندقوا فوق سطح المبنى. وفجأة سمع جواد أصوات اهل الناصرية الذين تقدموا لنصرة المنتفضين وتتقدمهم جرافة والتي لم تتوقف ، فسارت باتجاه مدخل المبنى. وهذا ما جعل ازلام النظام الى رفع راية بيضاء وهي عبارة عن فانيلة داخلية لأحدهم. فأستسلموا امام اصرار الشعب والمقاتلين.
كل شئ توقف ماعدا الجرافة والشعب لم يتوقفوا . فالجرافة تقدمت لتدمر صورة الطاغية ، والشعب هب الى السطح ليعتقل جميع من في المبنى. وهناك اكتشفوا خيبة الامل بعدم وجود المحافظ معهم. لكن المحافظ الجبان ضحى برفاقه وأمرهم ان يسلموا انفسهم لكي بختبئ في احدى تواليتات المبنى.
الجزء الحادي عشر
محكمة الشعب في ساحة الحبوبي
السبت المصادف 2 ذار المواق 15 شعبان 1991
لم تشهد الناصرية حاكماً حاقداً على اهلها من قبل بقدر حقد المحافظ (طه ياسين حسين من اهل الفلوجة ) الذي جاء لها متغذياً بالافكار المسمومة الطائفية والحقد الأعمى على اهلها ونظرته الدونية لهم.
ولم تكن ايام سهلة تلك الايام التي مرت على اهلها من ظلم وجور بسبب قسوة محافظها طه ياسين واستهتار ابنه في مقدرات المدينة الإقتصادية.ناهيكم عن القتل والاعتقالات العشوائية وتجويع اطفالهم بعد ان حرموا حتى الحليب عنهم ،كانوا يعانون يومياً من هذه الظواهر الاجرامية . لكن الناس ساكتون وكأن حالهم يقول احذر الحليم إذا غضب. فجاء يوم الحساب معه بعد أن اقتحم الشعب مبنى قيادة فرع الحزب الحاكم في ذي قار، لكن المنتفضين لم يعثروا عليه خاصة بعد أن سلم عضو فرع الحزب في ذي قار المجرم الحارثي ورفاقه انفسهم للشعب، ويذكر أن المجرم الحارثي ورفاقه سيق مع الثوار الى سوق الشيوخ ، أما الأخرون فاعفي عنهم بعد ذلك، ليبقى المحافظ هو الهدف الرئيسي للشعب. وبعد بحث استمر اكثر من ساعة في المنبى لم يعثر عليه احداً. فأتجهت الناس الى المنظمات الاخرى لغرض تحريرها من جلاوزة النظام الحاكم. وبعد أن هدأت الأمور خرج المحافظ رأسه من احدى نوافذ المرافق الصحية لكي يطمأن على عدم وجود احد يتعرض له لغرض الهروب، لكن طفلاً شاهده واخبر الناس عنه. فهجموا عليه واعتقلته مجموعة من شباب منطقة الادارة المحلية المجاورة لمبنى الفرع وقاد المجموعة شاب يدعى (تحسين مهدي المحروق) فتجمع الناس لغرض ضربه ومطالبتهم بقتله ولكن تحسين حاول ان يحافظ على حياته لكي يأتي ضحاياه ويقرروا على مصيره، فاستلمه منه احد ضحاياه وهو شاب أخر يدعى (حيدر هاشم) من اهالي منطقة الشرقية. فوضعه في سيارة بيكب تابعة لدائرة للشرطة واتجه به الى بيت سيد راضي قرب تمثال الحبوبي، وسيد راضي هو أحد مرجعيات الناصرية الدينية وأحد وجهاء المدينة، لكن حيدر احتفظ بالمحافظ بعد أن كان رأي سيد راضي هو عفا الله عما سلف، كانت تجول في بال حيدر رغبة يريد ان يحققها وهي أن يصطحب المحافظ الى بيتهم لأخذ رأي أمه التي سبق وأن أهانها المحافظ ورفس الطعام الذي كانت تطبخه بمناسبة عاشوراء. فكان حكم الأم هو العفو عن الرجل ، وقالت له الله هو الذي يحاكمه بالأخرة. لكن حيدر لم يأخذ بنصيحة أمه فعاد به الى ساحة الحبوبي ليجد الناس من ضحايا المحافظ ينتظروه. فقاده حيدر الى تمثال الحبوبي وسط مدينة الناصرية ودماؤه تسيل من رأسه بسبب ضربة على راسه بعصى غليظة من قبل احد الشباب.
وهكذا اصبح مصير من من يزرع الحقد يحصد البغضاء والكره والقطيعه وغضب الله.. فاختار المحافظ زرعه بنفسه وحصده هذا اليوم.
واثناء الاستعداد لمحاكمته جاءت اخبار قتال عنيف في منطقة اخرى من مناطق المدنية شنه رئيس اركان الجيش نزار الخزرجي الذي كان متوجهاً مع حمايته الى صفوان حيث المشاركة في التوقيع على التنازل الذليل عن السيادة الوطنية والتي وقعها النظام في خيمة صفوان آنذاك، لكن اوامر جاءته ان يبقى في الناصرية لمقاتلة المنتفضين والقضاء عليهم. فكان خبر قتال الخزرجي قد اربك حيدر والذي كانت لديه رغبة بالمشاركة بتلك المعركة ، فأضطر ان يوقف المحافظ بجانب تمثال الحبوبي لكي يحاكمه الشعب وفعلاً أجتمع بعض من الناس الذين لديهم ضحايا لهذا الجلاد القاتل، فأقترب عليه احد ابناء الناصرية وقال له: لماذا فعلت بنا هكذا؟ السنا عراقيين مثلك؟ ماهو الفرق بين سني وشيعي لكي تقتل ابناءنا بدم بارد، ألا ترى مساجدنا وطقوسنا نشترك فيها مع بعضنا ونعيش بسلام طول عمرنا؟ ولماذا قطعت رزق الناس وجوعتهم؟ انسيت أن قطع الارزاق لا يقطعها غير الله سبحانه وتعالى وهو الرزاق؟
هل تعترف انك ظالم؟ رد المحافظ نعم،اعترف اني ظلمتكم فأعفو عني؟ فأجابه حيدر، امي عفت عنك لكني لا اعفي عنك لأنك ظالم .فتذكر قول الله تعالى لا بد أن يأخذ الظالم ولو بعد حين؟ فتوسل المحافظ بالناس أن يعفوا عنه لكن حيدر اجابه ، انت الذي اعتدى علينا وجوعنا واهاننا وأعدم بعض من اولادنا وافسدت بالمحافظة فساداً لا مثيل له وانت نفسك الذي قتل النخوة في قلوب اهل الناصرية ، وكما تشاهد ان اغلب الناس عفو عنك ، لكن مثلك يحل قتله.. .. .
الجزء الثاني عشر
معركة الخزرجي وتحرير الناصرية
السبت المصاف 2 أذار والموافق 15 شعبان من عام 1991
ما اشبه اليوم بالأمس فقد كرر صدام العديد من الاخطاء السابقة في حربه ضد الشعب الكويتي الشقيق، وأثبت بأنه قائد ميداني فاشل، بالإضافة الى اخطائه السياسية القاتلة، وذلك حينما دفعه جنون العظمة، وشهوة التسلط، الى اجتياح الكويت، دونما حساب لنتائج هذا الفعل الإجرامي، ودونما تقدير لموازين القوى الظاهرة والمحتملة. وفي النتيجة كان الخاسر الأكبر هو شعبنا العراقي وامتنا العربية، جراء تهور هذا الدكتاتور وطيشه، وغروره الأعمى.
ورغم سلطته وجبروته إلا أن هناكا صراعا واضحا كان في داخل المؤسسة العسكرية وخير دليل على ذلك هو التخلص من وزير الدفاع عدنان خير الله طلفاح وما لحقه من اعتقالات واعدامات لعدد كبير من ضباط الجيش العراقي. ولكن وبالرغم من امساك القادة الموالين للنظام بالمفاصل الرئيسية في المؤسسة العسكرية. إلا أن إنتفاضة عام 1991 فرزت مواقف هذا الجيش في دور بعض الضباط الوطنيين الاحرار في الوقوف مع الشعب ودعم هذه الانتفاضة الشعبية العفوية ، وخير دليل ما اشرنا اليه في موقف الضباط الذين ساندوا انتفاضة البصرة وزودوا المنتفضين بدبابة وبعض الاسلحة الخفيفة. اضافة الى الموقف الوطني الذي وقفه احد حماية رئيس اركان الجيش العراقي السابق نزارعبد الكريم فيصل الخزرجي في انتفاضة الناصرية.
ففي يوم السبت المصادف الثاني من اذار والموافق الخامس عشر من شعبان وبعد ان تحررت جميع مقرات السلطة الحاكمة في مدينة الناصرية تفاجئ الشعب الناصري بقتال دار بين قوات الخزرجي الذي كانت متمركزة في مديرية الطرق والجسور وسط الناصرية بالقرب من ساحة تمثال القيثارة سابقاً، فالتحق المنتفضين الذين يحملون السلاح للمشاركة في المعركة.
كانت قوات الخزرجي مسيطرة على الموقف بسبب تحصينهم الجيد وخبرتهم في القتال ونوعية الأسلحة التي يستخدمونها، لكن اصرار المنتفضين على الاستمرار بالقتال وايمانهم بقضيتهم ووصول تعزيزات من اهل سوق الشيوخ اعطى حافزاً معنوي للمقاتلين الذين قدموا شهداء وحاولوا الوصول الى المبنى فسقط منهم اول شهيداً وهو السيد حليم البكاء الذي حاول بشجاعته أن يقتحم المبنى ،لكنه اصيب بالقرب من السياج حتى خر شهيداً.
فاستمر القتال من الساعة الخامسة عصراً حتى منتصف الليل دون توقف، كان الخزرجي يناور في الوقت أملاً في وصول تعزيزات عسكرية من فرقة ابو ذر الغفاري العسكرية التي كانت تتمركز في متنزه الناصرية الكائن في الصوب الأخر من نهر الفرات ، لكن الابطال المنتفضين تصدوا لها في شارع الزيتون قبل أن تعبرالفرقة العكسرية الجسر فسقط اول جريح من المنتفضين والذي لازال اسمه عالقاً في ذاكرة الراوي وهو السيد غالب هاشم الياسري.
وللأمانة التأريخية نود ان نذكر اسماء بعض المقاتلين الذين علقت اسماءهم في ذاكرة الراوي و هم جماعة الحجي فؤاد والذين هم حيدر كامل برهان و حيدر هاشم وناصر ابو بدر وحسن شناوة واخرون كثيرون غيرهم تميزوا في معارك مدينة الناصرية باسناد من اخوانهم بعض من اهالي سوق الشيوخ ، حيث ان مركز الناصرية كانت تحميه قوة كبيرة من ازلام النظام الصدامي. لكن إرادة الشعب كانت اقوى من الطغاة.
وهكذا فقد تصدى ابطال الانتفاضة للهجوم من جانب جسر الزيتون لكن المعاركة مع الخزرجي لازالت مستمرة الى غاية الساعات الاولى من الصباح. وقد اصيب الخزرجي في طلق ناري في بطنه مما استدعى إبنه احمد الذي كان يرافقه بعد أن ارسل المنتفضون مفاوضاً لا يحمل السلاح وهو المنتفض البطل عباس حريجة حنظل الذي اقترح عليهم الاستسلام بشرط عدم التعرض لهم وارسال الخزرجي الى المستشفى لغرض العلاج، فوافق أحمد الخزرجي لكي ينقذ ابيه الذي اجريت له عملية جراحية على الفور من قبل دكتور ربيع مدير المستشفى التعليمي. وهنا يبرز دور سلمية المنتفضين على انتفاضتهم من جانب واصرارهم على تحرير مدنهم حتى لو اضطروا الى حمل السلاح من اجل قضيتهم من جانب اخر.
وما تناقلته الاخبار في اليوم التالي في المستشفى هي ان الخزرجي لم يصاب من قبل المعارضة المسلحة ولكنه اصيب من قبل احد حمايته وهوعقيد بالجيش نصح الخزرجي ان يتوقف لانه قال للخزرجي اننا لا يمكن ان نستمر بقتال الشعب الذي يرفض صدام لكن الخزرجي اطلق النار عليه فبادله الأخر بالرمي قبل ان يستشهد. وهنا يظهر لنا مرة اخرى عمق الخلاف والصراع بين المؤسسة العسكرية والقادة الموالين للنظام.
وبهذا اليوم الخالد سجل التأريخ صفحة بيضاء ناصعة على سجل الناصرية الزاخر الزاهي المجيد، لتعم الفرحة في شوارع المدينة وفي قلوب الشعب الصادقة بعد الخلاص من ظلم الدكتاتورية لعقود طويلة.