المنبرالحر

من يوميات منتفض..انتفاضتا قلعة سكر و الشطرة / ليث عبد الغني

إنتفاضة مدينة قلعة سكر البطلة
الجزء الثالث عشر
السبت 2 اذار المواق 15 شعبان من عام 1991
تمضي الدقائق و السيارة بطيئة كالسلحفاة ، ومهما ضغط السائق رجله على دواسة السرعة إلا أنه كان يشعر ان النهار انتهى وهم مازالوا في السيارة، كان يكرر على السائق كلمة (اسرع شوية عندي شغل) ، وما أن وصلت السيارة الى مرأب المدينة حتى راح (محمد سيد شندول) يحمل البشرى مسرعاً الى مركز المدينة في وسط سوقها القديم وهو يصرخ باعلى صوته، انتفاضة ياناس، لقد انتفضت مدينة الحي وانتفضت مدينة الشطرة فأين انتم يا اهل قلعة سكر. كان يشحذ من خلال كلماته المؤثرة العاطفية الهمم لكي ينتفض الناس، وفعلاً وخلال دقائق تجمع الاهالي في منطقة السراي والذين هم كانوا اصلاً متهيئون لهذه الانتفاضة المباركة، فأنقسم الناس بشكل عفوي الى قسمين فالقسم الأول توجه الى منظمة حزب البعث الحاكم قرب الدوار (الفلكة) وسط المدينة، أما القسم الآخر فأتجه الى دائرة الأمن قرب محطة الوقود والتي هرب منها رجال الأمن دون أي مقاومة تذكر فوجدها ابناء المدينة عبارة عن مبنىً فارغاً. وهذا الأمر هو عكس ما حدث هناك أمام منظمة حزب البعث الحاكم حيث واجه الشعب مقاومة مسلحة من قبل ازلام الحزب والذين قرروا القتال بدل ان يسلموا المبنى بشكل سلمي الى الشعب. كان عدد قليل من الاهالي يحمل السلاح لذلك كانت المقاومة شديدة ضدهم مما ادى الى سقوط اول شهيدين وهما الشهيد محمد شهد والشهيد برزان عباس الشهيب. ومن المفارقة الأليمة التي حصلت هي أن الشهيد برزان عباس الشهيب قد استشهد على يد اخيه المجرم عريبي الذي كان يتحصن في المبنى، فقد فضل أن يقتل ابناء مدينته وأخاه على أن يسلم السلطة، وها هم ازلام النظام يؤكدون مرة اخرى اجرامهم الذي بات طبيعياً ان يمارسوه ضد ابناء الشعب والذي اصبح يجري في عروقهم. فهم لا يعرفون الرحمة حتى مع ارحامهم. واستمر القتال ببسالة وشجاعة من قبل الاهالي فأستطاعوا أن يقتلوا عنصرين من عناصر النظام رغم تحصن ازلام النظام في المبنى وهم المجرم ابو عدي من بيت السعدون في ناحية الموفقية والثاني هو المجرم غالب رزوقي وهو من اهالي مدينة قلعة سكر. اشترك اغلب ابناء مدينة قلعة سكر في الانتفاضة ولم يكن معهم أي شخص غريب حسب ما ذكره الراوي، فأهالي مدينة قلعة سكر، تلك المدينة الصغيرة التي تغفو على ضفاف نهر الغراف والتي تقع شمال محافظة ذي قار يعرفون بعضهم البعض. وهكذا فقد اثبتت الانتفاضة انها انتفاضة اخلاقية ، حيث بعد أن تحررت المدينة في عصر يوم السبت المصادف 2 من اذار أطلق سراح جميع من بقي حياً من ازلام البعث، ولم يتعرض لهم احداً من ابناء المدينة وخاصة عريبي الذي قتل اخاه والذي لازال على قيد الحياة. وهنا يؤشر هذا الحدث سلمية اهل الانتفاضة ورغبتهم ببناء عراق جديد خالي من القتل والدماء، إلا ان ازلام البعث الصدامي الذين تربوا على افكار سيدهم المقبور قد نزعت من قلوبهم الرحمة، حيث هاجر القاتل عريبي الى الموصل وانخرط هناك هو وأبنه بمنظمات ارهابية تقتل الشعب.فالقي القبض على ابنه الذي يكنى ابو تراب والذي عرضه التلفزيون العراقي بعد ان اعترف بقتل 25 مواطناً بريئاً من اهل الموصل . هذا ويذكر أن مدينة (قلعة سكر) لم تشعر بطعم الحرية سوى ليلة واحدة فهجمت عليها في اليوم الثاني قوات الحرس الجمهوري وقيادات من حزب البعث الحاكم بقيادة عزيز صالح النومان الذي اشرف بنفسه على اعتقالات الشباب وحرق بيوت المنتفضين المشاركين في يوم التحرير، ورغم صغر حجم المدينة وعدد اهلها القليل قياساً بالمدن الكبرى إلا أن النظام اعتقل اكثر من الف شخص واعدم منهم اكثر من 400 شاب وضحايا اخرين .
ــــــــــــــــ
( 1 ) أنتفاضة الشطرة الخالدة
الجزء الرابع عشر
السبت 2 اذار المواق 15 شعبان من عام 1991
مدينة حالمة يشطرها نهر الغراف فتستنشق رائحة الورد وتصحو على قطرات الندى. انها تلك المدينة التي تغنى بها الشعراء وكتب عنها الادباء، مدينة الكفاح والتضحيات والشهداء. مدينة قد صبر اهلها كثيراً، وكانت محنة صبرهم في تلك الايام كمشقة الصابر على قبض الجمر. الشطرة هي تلك المدينة العراقية التي عرفت بأنها صانعة للأبطال والفكر والجهاد والحراك الوطني.
في ذلك المساء وبالتحديد في مساء يوم الجمعة المصادف 1 من اذار الموافق 14 من شهر شعبان 1991، كان الليل مقمراً وجميلاً والسكون يلف الحارات الشعبية البسيطة ، كنا منتظرين يوم غد المتفق عليه لأنطلاق ثورتنا الشعبية، وكنا نتجول ونصرخ بأعلى اصواتنا اين انتم يا بعثيون.. لماذا خرستم بعد أن دمرتم البلاد؟ كانت اصواتنا تصل لعنان السماء، ولا مجيب للنداء.
أنتظرنا ذلك الصباح لكن ساعات الليل كانت طويلة مملة. كان حديث الناس هو الإنتفاضة لا غيرها اياً كانت الحسابات والتقديرات والسيناريوهات فأن صدام في قرارات الشعب زائل لا محال، لكن ذكره سيكون مقروناَ باللعنات وسيبقى شاخصاَ لفترة طويلة نتيجة حكمه الدموي البشع. وهذا الاجرام سيوحد العراقيين ضده لأنهم أمة حية لا تقبل الذل والعبودية. ناهيكم عن ايذاء جيرانه الذي اوقعنا معهم بحروب لحقت دمار بالمنطقة والعالم اجمع . فرغم مغامرة غزو الكويت وما لحقتها من دمار للبنى التحتية وأيذاء للشعب الكويتي الشقيق، إلا أن الاضرار والاخطار التي عصفت بالعراق كانت اشد هولاً وأكثر دماراً ومأساوية .فجاءت انتفاضة الشعب العراقي 1991 نتيجة حتمية لشعب مضطهد مقهور لم يعد مقدوره أن يستوعب هذا الدمار الذي لحق بالعراق ومؤسسته العسكرية . فأنتفضت مدن الجنوب واحدةُ تلو الاخرى خلال ساعات محدودة. وكانت مدينة الشطرة احدى هذه المدن المنتفضة التي استبسل اهلها من اجل تحريرها .فرغم كل الغموض الذي لفها طول السنين، بسبب التكتم الإعلامي والقمع الذي فرضته سلطة الطاغية المقبور عليها لكن الجميع يعرفها انها مدينة الشهداء والاحرار والمناضلين .
وفي صباح اليوم التالي صرخت مدينة الشطرة صرخة مدوية سمعتها المدن الاخرى. فأبناءها دافعوا عنها بشراسة في معركتين تعد من المعارك الكبرى، فقدمت العشرات من الشهداء وقتل ثوارها جميع من قاومهم بالاسلحة الخفيفة والفتاكة من اجل تحريرها، ولكن رغم القتال الشديد المفروض عليهم،إلا انهم كانوا يتمنون أن يسلموا ازلام السلطة الحاكمة مقراتهم بسلام، وكانت قلوب المنتفضين رحيمه لمن يسلم نفسه، وكان خير مثال هو البعثي القيادي ستار عبد الأمير الذي رفض القتال مع رفاقه المجرمين وترك المعركة واستسلم . فالتفوا حوله المنتفضين ابناء المدينة لكي لا يصاب بأذى من الطلق الناري الكثيف في وسط المعركة. وهنا تتكرر هذه الحالة لتثبت اخلاق وسلمية ووطنية المنتفضين، وتثبت ايضاً صدق المنتفضين ببناء وطن جديد خالٍ من الدم والقتل والثأر. وكأن حالهم يقول كقول الشاعر:
( كم توسدنا الثرى ياموطني نحضن الارض كما العشاقِ
وأمتطينا المـــوتَ سعياً للعلا نــــحــن جيل طيب الأعراقِ).
لقد مارس صدام كل انواع البطش والقتل والأذى مع جميع مكونات شعبه، والشعوب المجاورة ايضاً، لأنه كان يحلم بتكوين امبراطورية ، ونسى أن عهد الأمبراطوريات قد انتهى حقاً منذ القرون الماضية. حاول ان يلغي دور الجيش وتحويلة الى اداة للقتل والقمع لكنه لم يسيطر على الوضع فأسس جشياً خاصاً أسماه الحرس الجمهوري ليؤدي هذا الدور، لكنه نسى ايضاَ أن العراقيون قوم متمردون بطبيعتهم. ولا يوقفهم حرسه الخاص، حتى لو اباد الشعب كله.
كانت الشواع في صباح اليوم الثاني تغص بالناس انتظاراً لساعة الصفر، وكنت انا وصديقي الشهيد سعد الصفار نحضر كاميرة فوتوغراف وافلام لتوثيق الانتفاضة كما نشحذ همم الناس للمشاركة. فكرنا ان نخفي الكاميرا فوضعناها في كيس ورقي اسمر لكي لا يكشفها احد. كان الجميع ينتظر الشرارة الاولى ولكن ما اخر انطلاق الانتفاضة هو وصول خبر احد الشهداء الذي اصابه طلق ناري في معركة انتفاضة مدينة الحي فكان تشييع جنازته هي انطلاق الانتفاضة بشعار واحد بعد رفع جتمانه وهو (لا اله إلا الله صدام عدو الله) فأنتفض الجميع بصوت واحد وكانت صرختهم تدوي في ضمائر الاحرار. فاتجه الشعب بمسيرات سلمية باتجاه مقرات الحزب وشرطة الأمن لكن ازلام النظام الحاكم ارادوها انتفاضة مسلحة حدثت فيها الكثير من الاحداث العنيفة.