المنبرالحر

لماذا هذا السعي لتشتت المواقف الوطنية؟ / جواد وادي

يمر العراق بحالة من عدم الاستقرار في شتى مناحي الحياة، السياسية والاقتصادية والفكرية وسواها، لتنسحب على الانتماء للوطن، وعدم السعي لردم الخلافات والهوة التي تتسع يوما بعد آخر بين المكونات العراقية، في الوقت الذي يمر العراق بمرحلة حرجة، من تفكك في المواقف، وعدم وضوح الرؤيا، والسعي بشكل محموم وغير مفهوم من قبل المكونات الرئيسية التي تشكل المشهد السياسي الراهن الذي يتسم بالضبابية والفوضى والغموض الغريب، بالتمسك بشدة بالامتيازات بأنانية ضيقة.
إزاء هكذا وضع يمر به العراق، وما يعانيه من مشاكل لا حصر لها، نجد ما يميز الوضع الراهن، التخبط الخطير الذي أثّر ويؤثّر كثيرا على أوضاع العراق بشتى مناحيها، سيما الحرب المكلفة جدا التي يشنها العراق ضد قوى الظلام والتخلف من مجرمي داعش، وفلول البعث الفاشي، ومع ذلك لا نجد من يغلّب مصلحة الوطن على المصالح الشخصية والفئوية الضيقة، ولو لحين، للخروج من هذه المحنة التي تتفاقم يوما بعد آخر، حيث لم يعد هذا التهافت المسعور على المصالح خافيا على أحد، الأمر الذي يدفع بالمشهد السياسي وما يترتب عليه من نتائج وخيمة، إلى حالات من التعقيد وتفاقم الأزمات، مما يعني أن العودة لحالات شبه طبيعية لم يعد ممكنا، وهنا يبرز السؤال الأخطر، هل من المعقول أن قادة البلاد، إن هم بمواصفات قادة، وما لهم من التجارب السياسية السابقة وما عاشوه من محن وكوارث إبّان العهد الصدامي المقبور، لا يملكون الحس الوطني، ولا يسعون لتغليب حالة التردي الآخذة بالتصاعد، وهم يعرفون أنهم سبب كل هذا الخراب من خلال تسيّدهم للقرار وما ارتكبوه من أخطاء قاتلة أدت لكل هذا البلاء الذي أكمل خراب صدام، وكأنهم مكلفون بمهمة تدمير العراق، قبل السقوط وبعده؟
الغريب في الأمر أننا نلاحظ تمادي مقصود ومخطط له في ارتكاب الأخطاء التي امتدت لأكثر من ثلاثة عشر عاما، سببوا من خلالها كل هذا التراجع الخطير، بدل السعي لإعادة بناء بلد خرج من محارق صدام كسيحا، علما أن الجميع راهن على أن القادمين، بما لهم من ماضٍ معارض لسلطة الطغيان، ان العراق مقبل على مستقبل من البناء والاعمار وإعادة اللحمة الوطنية التي فرّط البعث فيها كثيرا، حتى وسط العائلة الواحدة، وقبل هذا وذاك، إعادة الثقة للشخصية العراقية التي دمرتها الحروب والمغامرات الصبيانية، ألا أن الصدمة كانت ولا زالت مهولة ولا يمكن تصديقها، حين بادرت الكتل بكل مشاربها، الى فرض هيمنة مطلقة على السلطة بطريقة تنم عن تغليب المصلحة الشخصية ومصلحة الانتماء للكتل والأحزاب الدينية في عمومها، وخلق حالة من التشرذم الطائفي والمذهبي والاثني، لم يكن العراقيون يعرفونه بهذا القدر من العبث الواضح والمعلن بشكل أصبح هو واقع الحال بتبجح وتفاخر، دونما أدنى سعي للحفاظ على وحدة النسيج العراقي، ذلك النسيج الذي تعرّض في زمن ما بعد البعث، الى حالة من التفتت والتشتت والخوف من الآخر والتعامل بتوجس ومحاذير، بعضهم مع البعض الآخر، حتى انسحبت الفرقة الى العائلة العراقية ذاتها، وتم تغليب ممارسات دينية وفرض طقوس، لم يكن القصد منها، ممارسة شعائر، يحترمها جميع العراقيين، بل بات الطفل الرضيع على بيّنة من الأهداف التي تتستر وراء تشجيع هذا التناحر الطائفي لغرض استمالة البسطاء، بأيمانهم القدسي لهذه الطقوس، ومن ثم أخذت هذه الكتل التحكم بمقدرات البلد، بإشاعة المحسوبية والفساد وتحويل العراق الى مجموعة من الكانتونات والضيعات والتقسيمات، كلٌ ومستعمرته وكيانه الإداري، لتنسحب هذه الحالة المفزعة الى الاستحواذ على أملاك الدولة، أبنية وأراضي، والاستيلاء عليها دون رادع وطني أو أخلاقي أو قانوني أو حتى إعمال الضمير الذي يعود بمرجعيته للتربية الدينية التي يتبجحون بها، وما يثير الاستغراب و"اللطم على الرؤوس حقا" أنهم يعرفون بهذا الشطط المخيف الذي يفعلونه، لكنهم يسدّون كل مجساتهم التي وهبها الله للبشر، لتمييز الصالح من الطالح، فيعود الطالح بنظرهم وقناعاتهم هو الصالح، وهنا تكمن الطامة الأعظم والأشد هولا ووقعا على العراق والعراقيين.
هل يختلف اثنان من العراقيين قبل غيرهم أن ما ذهبنا اليه يشوبه أي غموض أو شك؟
لكنما المعضلة الكبرى أن السياسيين العراقيين قد فقدوا كل بوصلاتهم، وما يصرحون ويفعلون ويكرسون من ممارسات وأخطاء، تنم عن فقدان مطلق للحس الوطني، الذي ينبغي على كل سياسي شريف التمسك به، باعتباره موقفا وجدانيا تشير بوصلته الى الهوية الحقيقية لمن يمتلك سلطة القرار وادارتها بمهنية وبوازع أخلاقي تلافيا لحدوث الكوارث، لتعود هذه المواقف مصدات من شأنها أن تعين على تبيان وكشف الأخطاء، والحؤول دون تكرارها، ولكن ما نعيشه ونلمسه ونعانيه كعراقيين ذقنا الأمرين، أن دار لقمان ما زالت على حالها، والقادم أعظم، إذا ما استمر الوضع بذات الحالة المفزعة.
ما دعانا لتناول هذا الموضوع، تكرار الأخطاء والتغطية على ملفات سببت كوارث ما فتئت تتعاظم في العراق، والطوفان على وشك الحدوث، دون سعي محسوس لقادة الكتل لشم رائحة الخطر، وكأنهم قد اطمئنوا بأنهم في مأمن عن أي زلزال قادم، والعكس هو الصحيح.
ملفات الفساد المخيفة تتكشف يوما بعد آخر، وفرسان الفساد كلهم معروفون وبوضوح لا غبار عليه، وها نحن نفاجأ بشكل يومي بما لا يقبل الشك، بأن حالة الفساد في تصاعد مدمّر، ومع ذلك لا يعنيهم ما يتناهى لأسماعهم من تهم وتوجيه أصابع الإدانات بشكل واضح لهذا وذاك، وهم لا يزالون على دفة القرار، وكأنها مخلوقات قد هبطت من أكوانٍ بعيدة، لا شأن لها بما يحدث، وهنا تكمن الكارثة.
أمس وخلال كلمته في ملتقى ديني لأحياء ذكرى "وطنية"، دينية، صُدم العراقيون الحريصون على مستقبل البلد وما يمر به من كوارث، على أقل تقدير، بتصريح مستهجن وفي غاية الغرابة من طرف السيد نوري المالكي، الذي ومن خلال السنوات الثماني لفترة حكمه على رأس السلطة، وما سببه من تراجع وفوضى وخراب وهدر للمال العام وافقار العراق وهدر للدم العراقي وغيرها من الفواجع، يأتي ليكرس ذات النهج الخاطئ وغير المسؤول ليعلن أمام الملأ، أن الصراع في العراق يستهدف التيار الإسلامي، وهو ذات النهج للإخوان المسلمين في مصر، بمعنى أنه الصراع بين هذا التيار وبين التيار المدني، قالها بحماس واندفاع وعلامات التذمر بادية على ملامحه، مثلما صرح إبان رئاسته للسلطة التنفيذية، بأن الصراع هو بين أتباع الحسين وأتباع يزيد، كذلك ما قاله السيد عمار الحكيم بضرورة التمسك بالامتيازات وغلق الأبواب أمام أي تغيير، وقبل ذلك ما قاله السيد مقتدى الصدر خلال اجتماعه مع طلاب في الحوزة بأن التيار العلماني يزحف لهم وبينهم، محذرا من هذا الخطر الداهم.
نحن في حالة من الذهول والاندهاش حين نسمع مثل هذا التهويل والخوف من المد العلماني أو التيار المدني، وكأن هؤلاء المواطنين من علمانيين وتقدميين يشكلون فزّاعة ومصدر هلع حقيقي للأحزاب الدينية، وكأنهم سيسحبون البساط من تحت أرجلهم ويحرمونهم من الامتيازات، ناسين أن الجميع يعيشون في وطن أسمه عراق، والدستور الذي شرّعوه هم أنفسهم، يحافظ على حقوق الجميع ويضعهم أمام مسؤولياتهم، وهو المصدر الأساسي للحفاظ على اللحمة العراقية بكل مشاربها، دونما فرق بين هذا الفصيل وغيره، المهم أن يكون الفعل الوطني هو الفيصل، دون التحسس والخوف من أي فصيل كان، والأغرب أن ما يعلنون غير ما يضمرون، وهذا ما يؤدي إلى غياب النوايا الصادقة في العمل معا لتغليب المصلحة الوطنية للخروج من عنق الزجاجة دون أن يضمر أي طرف محاذير في التعامل مع الطرف الآخر، بتوجسات لا أساس لها من المخاوف والتآمر الذي لا يوجد إلا في ازدواجية المواقف وعدم الوضوح والانفتاح على الآخر، لأن الوطن للجميع يا سيد نوري المالكي، والتيار المدني لا ينوي رصد التيار الاسلامي ولا التربص به، ولا التنافس معه بغرض اضعافه او النيل منه، بل هذا التيار هو من يحترم كل مكونات العراق وأحزابه تحت سقف الوطن العراقي، بوصلتهم الدستور والقانون والابتعاد عن الأقصاء وتغييب الآخر، كما ألفنا مثل هذه الممارسات المستهجنة من الحكم البعثي الفاشي وما سببه من خراب بسبب توجسه من الآخر وخوفه على الامتيازات والتفرد بالسلطة مما سيقودهم حتما أن يفقدوا الخيط والعصفور.
فلندع الخوف جانبا ولنعمل معا ضد التهويل الذي لا مبرر له والذي سيؤدي حتما إلى الخسارات الكبرى.
ولنهتدي بما قاله فولتير "قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعدٌ أن ادفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك"
اليس هذا هو مدعاة للتفاخر بالعمل الوطني المشترك مع الآخر لبناء الوطن المنكوب؟
أم أن لكم رأيا آخر؟