المنبرالحر

رثاثة السلطة وأثرها في بناء الدولة العراقية / زهير كاظم عبود

تعرف الدولة بأنها كيان سياسي ضمن نطاق إقليمي يمارس السلطة عبر الحكومة ومنظومة المؤسسات الدائمة التي يشير اليها الدستور ، وتتشكل الدولة من الشعب والحكومة والسيادة على الأرض، وتكتسب الدولة شخصيتها القانونية عبر الاعتراف بها، وبممارستها السيادة في المجتمع وفقا للدستور، يعني أنها تعلو على كل التنظيمات التي تمارس السلطة، وتعبر قراراتها وشكلها عن إرادة ومصالح المجتمع، حيث تمتلك الضمان القانوني لفرض قوانينها من خلال الدستور، واحتكارها فرض القوانين والعقوبات وهيمنتها على الوسائل القسرية في التطبيق، وتمارس تلك الوسائل والاختصاصات ضمن مساحة محددة من الأرض تشكل وحدة مستقلة لتطبيق سياستها.
والدولة العراقية وفقا لما ورد في الدستور العراقي هي دولة اتحادية واحدة مستقلة، ذات سيادة كاملة، ونظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي، وضمن الدستور حرية الإنسان وكرامته، وان لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة، هذا الضمان الذي يفرضه الدستور تلتزم به الحكومة (السلطة)، والسلطة تعني المؤسسة التي خولها المجتمع بشكل مباشر أو غير مباشر بواسطة نوابه في مجلس النواب أن تمارس صلاحياتها ومشروعيتها وفقا للدستور ولنصوص القوانين النافذة، وبذلك تستمد السلطة السياسية قوتها من الحق الممنوح لها في الدستور والقوانين ، من خلال تخويل الشعب وقبوله استمرارها وبذلك يمكنه متى ما أراد أن يسحب تخويله وتفويضه من تلك السلطة إذا ما وجد إنها لم تقم بتنفيذ السياسة العامة المخطط لها أو التي تم رسمها من قبل مجلس النواب، أو من قبل المجتمع متمثلا بمنظمات المجتمع المدني، فتنتهي بذلك مشروعيتها وأسباب بقائها.
أن الدستور العراقي يقوم على عدة ركائز أساسية، كما انه حدد وبشكل واضح وصريح المبدأ الذي تلتزم به الدولة العراقية على أساس الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومهمة السلطة التنفيذية المتشكلة من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، وان يمارس مجلس الوزراء الصلاحيات التالية :
أولا: تخطيط وتنفيذ السياسة العامة للدولة والخطط العامة والإشراف على عمل الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة.
ثانيا: اقتراح مشروعات القوانين.
ثالثا: إصدار الأنظمة والتعليمات والقرارات بهدف تنفيذ القوانين.
رابعا: إعداد مشروع الموازنة العامة والحساب الختامي وخطط التنمية.
خامسا: التوصية إلى مجلس النواب بالموافقة على تعيين وكلاء الوزارات والسفراء وأصحاب الدرجات الخاصة، ورئيس اركان الجيش ومعاونيه ومن هم بمنصب قائد فرقة فما فوق، ورئيس جهاز المخابرات الوطني، ورؤساء الأجهزة الأمنية.
سادسا: التفاوض بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية والتوقيع عليها، هو أو من يخوله
هذه الصلاحيات لتنفيذ السياسة العامة الضامنة لتطبيق الحقوق المدنية والسياسية والثقافية والحريات العامة يتم تنفيذها عبر السياسة العامة للدولة، ورئيس الوزراء والوزراء مسؤولون مسؤولية تضامنية مباشرة عن تنفيذ هذه السياسة العامة كلّ وفقا لاختصاصه وصلاحياته، لذا فان فرض أفكار يؤمن بها حزب معين على جميع المواطنين، وانسحاب هذا الفكر قسرا على كل طبقات المجتمع يعد انتهاكا لمبدأ السياسة العامة للدولة، كما إن استغلال السلطة لقمع الفكر الآخر، والقبول بقيم متخلفة ومتعارضة مع مبدأ المساواة بين العراقيين، وتقسيم الفئات الاجتماعية الى أغلبية وأقلية من دون أي اعتبار لمبدأ المساواة والمواطنة، وفرض ممارسات طقسية على المجتمع لتصبح جزءا من الممارسة السياسية، ثم لتصبح جزءا من الممارسة الحكومية في شتى الأصعدة العسكرية والتربوية والاجتماعية. وبعد كل هذا عدم القدرة على تنفيذ السياسة العامة للدولة المدنية بشكل أمين، والفشل في المحافظة على المال العام وعدم تنفيذ خطط الموازنة ، وتراجع الخدمات، وانتشار الفساد من دون أي درجة من درجات المحاسبة والملاحقة، ومن دون أي اعتبار لما تحمله المجتمع العراقي من ضيم وقهر وتهميش من النظام البعثي، وصيرورة العراق بلدا منقادا من فئة دينية تحاول أن تتوافق مع بعض الكيانات التي تماثلها في الاعتبار لتتقاسم معها السلطة، جميعها أفعال تنتهك المباديء الأساسية للدستور وتتناقض مع مباديء الدولة المدنية، وتتعارض مع منطق العدل والمساواة.
الرثاثة تعني المتهرئ والبالي الممزق من الأشياء، وهي نوع من أنواع السلوك المتخلف أو المتراجع، ومنذ بداية عام 2003 حتى اليوم تراجعت الحياة العراقية بشكل مؤسف، ورافق ذلك التخلف تراكم الدمار والاندثار والتكلس لبنى تحتية ومؤسسات فاعلة في الصناعة والزراعة، ورافق ذلك أيضا إشاحة النظر عن إعادة البناء والترميم والتفكير ببناء مرافق او مشاريع يمكن أن تقوم بخدمة الإنسان في العراق منذ 2003 حتى 2016.
الحكومة تعكس المباديء التي طرحتها الدولة العراقية ضمن الدستور، ضمن مباديء المساواة والمواطنة وعدم التمييز والحق في الحرية والحياة والأمن وتكافؤ الفرص والحق في الخصوصية الشخصية وصيانة المال العام وضمان حرية الإنسان وكرامته وحرية التعبير والتظاهر وحرية الفكر والضمير والعقيدة، إلا أن الحكومة كانت بمعزل عن تلك المباديء ولم توفر للعراقي أدنى مستويات التطبيق العملي السليم لها، وفرضت هيمنتها على جميع مرافق الدولة باعتبارها غنيمة حزبية أو سياسية بالتقاسم مع أحزاب أخرى، من دون إي اعتبار للإرادة العراقية المتمثلة بالتعددية وللتاريخ العراقي أيضا.
أن ضمان الهويات الدينية للمكونات العراقية لا يعني بأي شكل من الأشكال أن يتم استغلال الدين كواجهة سياسية، وان يتم استخدام الدين كوسيلة لتهديم معاني حرية الآخر، فالعراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، ووجوب مراعاة هذا التعدد ملزم، كما إن المساهمة في عدم فهم التحول الديمقراطي داخل المجتمع شوه تلك المباديء، وكل خروج على هذه المراعاة يستوجب المساءلة، حيث اتسمت المرحلة من 2003 حتى الان بفشل الحكومات المتعاقبة في بناء أسس متينة لبناء الدولة العراقية الوطنية، نقصد دولة المواطنة، وطيلة هذه الفترة زادت الطبقة الماسكة على زمام السلطة من إصرارها على التمسك بالمنهج الطائفي، وحاولت استغلال المرجعية الدينية والرموز الدينية وتوظيفها لصالح ديمومة بقائها في الحكم، كجدار حماية ضد النقد وتشخيص الخلل والفشل والأخطاء والفساد الذي يحيط بأغلب قياداتها ونخبها السياسية، وبنتيجة هذه الحماية توسع الخراب والفساد، ولم يتم الاستماع الى أصوات المتظاهرين والمحتجين والمعتصمين ومطالباتهم المشروعة .
13 عام ولم تستطع السلطة أن تزيل الاحتقان الطائفي ولا خففت الكراهية والانتقام من الأخر، ولم تستطع أن تطرح مشروعا منطقيا للمصالحة الوطنية التي استغلتها أبشع استغلال من دون نتائج، على الرغم من الإنفاق الهائل والكبير على مؤتمراتها واجتماعاتها، كما ساهمت في تخريب مفهوم الديمقراطية في الانتخاب وهيمنتها على الهيئات المعنية التي سماها الدستور بالمستقلة، وتمكنت من تحويلها الى أدوات لتثبيت أركان الحكم، وخرقت مفهوم استقلاليتها، كما ساهمت السلطة في إشاعة التخلف الثقافي الدستوري والقانوني، وتردت العلاقة مع إقليم كوردستان العراق، حيث انتابها التوتر والتشنج والحساسية وسوء الفهم، بالإضافة الى المواقف السلبية التي أضرت بالشعب العراقي بشكل عام.
وطيلة فترة الحكم السابقة غاب التخطيط والإستراتيجية عن تطوير الاقتصاد العراقي، وانعكس الأداء سلبيا على السيادة العراقية فاسحا المجال للتدخل الأجنبي المتناحر داخل الساحة العراقية من خلال أطراف سياسية داخل بنية السلطة. وتفشت ظاهرة اليأس من قدرة تلك القوى على معالجة الفشل والإخفاق في أداء السلطة، كما ثبت عدم قدرتها على إيقاف ظاهرة الفساد ومعالجتها بالنظر لكون الفاسدين من تلك الرموز ومن بين رجال السلطة نفسها، مما شكل انتشار ظاهرة الفساد ونفور المجتمع من الصمت وغض البصر الذي تواجهه من السلطة المسؤولة عن الحكم، والمسؤولة عن معالجة تلك الملفات.
وعلى الرغم من أن الدستور يؤكد على عدد من المباديء التي تؤسس مداخل لإرساء دولة القانون، إلا ان أسلوب ممارسة السلطة ومعالجة الملفات والأوضاع كان يعتمد الحزبية الضيقة والمكاسب الشخصية والمحسوبية، بالإضافة الى الطائفية، أسلوبا ومنهجا انتشر ضمن هيكل المؤسسات والمصالح الحكومية، مما جعل عملية الإصلاح الجذري غاية في الصعوبة والتغيير، مالم يقترن بالتغيير المجتمعي وتغليب الهوية الوطنية على بقية الهويات، بالإضافة الى ضرورة العودة الى برنامج العدالة الانتقالية وتفعيل دور المجتمع المدني، وكبح جماح التطرف وإنهاء ظاهرة العنف ومنع انتشار واستخدام السلاح الذي تمتلكه المليشيات خارج إطار القوات المسلحة، وإعادة هيكلة وبناء القوات المسلحة على أساس المواطنة، والمباشرة في عملية الإصلاح الإداري والاقتصادي والثقافي، واعتماد سياسة نشر ثقافة حقوق الإنسان بزيادة الوعي المجتمعي، وتهيئة الناس لتقبل مفاهيم الديمقراطية والدولة المدنية، وتقبل المعارضة ونقدها، ونبذ اعتماد سياسة الإقصاء والاجتثاث كأسلوب لإنهاء الآخر.
بناء الدولة العراقية يحيط به كم هائل من الرثاثة لا يمكنها من سلوك الطريق الدستوري ورسم معالم الدولة التي يحلم بها كل أهل العراق، ويتعارض مع جميع مباديء بناء الدولة الحديثة ، ولا يتجاوز أو يعبر مرحلة الانتقال الى الدولة المدنية، الدولة التي يتساوى فيها المواطنون العراقيون بغض النظر عن أديانهم وقومياتهم ومذاهبهم، ولا تقوم على مفهوم أخر يستهين بالمجتمع وبالعقل المتمدن، ونحن إزاء طريقين لا ثالث لهما، فأما أن نبدأ بسلوك طريق الدولة المدنية ونلتزم بما تمليه شروط تأسيس هذه الدولة، أو نمضي الى المنحدر لتهديم ما تبقى من أطلال الدولة العراقية والمجتمع.