المنبرالحر

وهم التمييز بين التطرف والإعتدال في فكر الإسلام السياسي / د. صادق اطيمش

كثيراً ما يجري الحديث في اوساط النقاشات الدائرة، اليوم ايضاً، التي تتناول فكر الإسلام السياسي، عن وجود توجهات معتدلة ينبغي تمييزها عن التوجهات المتطرفة في هذا الفكر والتعامل معها من هذا المنطلق وليس من منطلق التصدي الذي ينبغي توظيفه لمواجهة الفكر المتطرف في هذا التيار. فما مدى صحة هذه الطروحات؟ وما جدوى التفكير اصلاً في وجود هذين التوجهين في حركات الإسلام السياسي؟
لابد لنا في البدء من طرح السؤال المتعلق بطبيعة الفكر الذي تسترشد به حركات الإسلام السياسي على اختلاف مناطق تواجدها واختلاف قوميات قادتها وتابعيهم. ولا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا بأن هذا الفكر الذي يدعي نهجاً دينياً اسلامياً لا ينكر خلط هذا التوجه الذي يفترض وجود ثوابت عامة تحكمه بتوجه آخر سياسي لا ثوابت له، إلا تلك التي تحقق مصالح ومكتسبات آنية تتحكم بها مجريات السياسة اليومية المتغيرة في كل الأوقات وعلى مر العصور وباختلاف القادة. فالدين والسياسة إذن هما المنهجان اللذان يسترشد بهما عمل منظمات واحزاب وحركات الإسلام السياسي اينما تواجدت. وإذا ما حللنا هذا التوجه المنهجي وولجنا اعماقه فسوف لن نجد هناك إلا ديناً واحداً لهذه الحركات لا يختلف في اساسيات عمل كل مجاميع الإسلام السياسي، وإن بدت بعض ملامحه الثانوية متغيرة نوعاًما كنوع من التقية التي تمارسها كافة فصائله المذهبية، فإن هذا التغيير لا يشمل الأساس الجوهري. وعلى هذا الأساس لا نرى فرقاً بين من يدعي الإعتدال وبين من يمارس التطرف، فكلاهما من طينة فكرية واحدة لا تسمح لهما بهذا الإختلاف. وحينما يندمج هذا الفكر الديني الثابت في منهاجهم بالفكر السياسي اليومي المتغير، تتبين بوضوح اهداف هذا الفكر الذي يسعى لتحقيق الوصول إلى السلطة السياسية، حتى وإن تخلى عن بعض ثوابته تكتيكياً وليس قناعة، فمسألة الكذب عند هذا المنهج اطروحة لا غبار عليها إستناداً إلى مقولته الفقهية : الضرورات تبيح المحظورات. ولشرح هذا الأمر بدقة اكثر، ندرج هنا بعض الأمثلة التي تسلط الضوء على ذلك.
جميع فصائل الإسلام السياسي تردد مقولة الإقتداء بالسلف الصالح حينما يجري الحديث عن طبيعة الحياة التي ينبغي للمسلم ان يمارسها في القرن الحادي والعشرين هذا. وهنا يضع الإسلام السياسي نفسه في متاهات تاريخية وفكرية لا يستطيع معها الإستمرار على نهج سلمي في علاقاته الإجتماعية. لذلك تراه يخلط اساسيات الدين بخطاب ديني مشوه وفكر مبتور. لقد جعل الإسلام السياسي من الفكر البشري الذي خلق التأويلات والتفسيرات للنص الديني بديلاً عن محتويات هذا النص. فنشأت بذلك اطروحة التكفير التي الصقها فقهاء الإسلام السياسي بكل من يخالف ما يذهبون إليه من " دين " جديد استمدوه من مراجع اسلافهم التي جعلوها اسساً جديدة لدينهم الجديد هذا، رافضين اي خطأ يمكن ان يكون هؤلاء الأسلاف قد وقعوا فيه باعتبارهم بشراً تحتمل اقوالهم الخطأ والصواب، لا بل ان بعض فصائل الإسلام السياسي جعلت من هؤلاء البشر معصومين عن الخطأ تماماً، فتبلورت لدى فقهاءهم القناعة بامتلاك الحقيقة المطلقة التي لا جدال فيها. ومهما اختلفت مذاهبهم وتنوعت مصادر معتقداتهم، تظل فكرة الإرتباط باسلافهم هؤلاء هي الفكرة التي تطلب من انسان القرن الحادي والعشرين ان يعيش حسب قوانين القرن السادس او السابع الميلادي، اي ان اموات الأمس يجب ان يحكموا احياء اليوم حسب عقيدتهم الخرقاء هذه. لقد جعل الإسلام السياسي من وهم إمتلاكه للحقيقة المطلقة سلاحاً ليس ضد مناوئيه فكرياً وحسب، بل جعلها ايضاً سلاح تكفير حاد لبعضه البعض تسبب بنشوء معارك ضارية ادت إلى خسائر بشرية جسيمة. كل ذلك يجري تحت يافطة الإسلام، والكل يستند على ذات النصوص في القرآن والسنة، والكل يدعي انه هو الفرقة الناجية ، والكل يدعي امتلاكه هو فقط للحقيقة المطلقة، ولا فرق بين معتدل او متطرف في إدعاء الملكية لهذه الحقيقة الموهومة.
ألإسلام السياسي، بكل فصائله ، لا يعترف بالوطن ولا بالقومية وإن هذه المصطلحات لا وجود لها في قاموسه، إذ انه يعتبرها مفاهيم تناقض شمولية الدين وتتجاوز على بنية دولته المنشودة التي لا وجود فيها إلا للإنتماء الإسلامي. وعلى هذا الأساس صاغ نظريته في حكم هذه الدولة التي جعلها دولة إلهية لا دور للبشر القاطنين على اراضيها في تقرير امورها التي يجب ان تسير حسب المشيئة ألإلهية التي يقررونها هم وليس غيرهم، ومن يجرأ على المطالبة بقوانين او نظام حكم تتماشى والعصر الذي يعيش فيه فمصيره العقاب الذي يستحقه كل من يخرج على ارادة الله، الههم. ولا يختلف تيار عن آخر في فهم وتطبيق هذه التصورات، وإن اختلفوا ففي الوقت والدرجة التي تُطبق فيها هذه المنطلقات الفكرية الأساسية في معتقداتهم. وهنا يبرز شعارهم المأزوم الذي تتبناه كل فصائل الإسلام السياسي، بدون اي تمييز، والذي ينص على حاكمية الله. وفي هذا الشعار ايضاً يحاول فقهاء ومفكرو الإسلام السياسي جميعاً ان يوهموا متلقي هذا الشعار بان شعارهم هذا مستوحى من نصوص قرآنية إلهية لا مجال لتغييرها او عدم الإلتزام بها. وحينما يتحدث هؤلاء الفقهاء عن مسألة " حاكمية الله " او " لا حكم لغير الله " او ما شابه ذلك فانهم يستندون، وبدون إستثناء اي منهم، على بعض الآيات القرآنية التي تتطرق إلى مفردة " الحكم " الواردة في القرآن في مواقع مختلفة، دون ان يوضحوا المعنى الحقيقي لهذه المفردة وكيف جاءت في النص القرآني وما هو الهدف منها. وبذلك تظل الصورة الضبابية التي ينشرونها عن حاكمية الله تنعكس على قناعات ونشاطات بعض المتلقين لهذا الشعار دون ان تتبلور لهذا المتلقي اية تفسيرات او ايضاحات لما تعنيه مفردة الحكم في القرآن. ففقهاء الإسلام السياسي جميعاً يزعمون ويؤكدون ان الحكم هنا يعني الحكم السياسي الذي يجب ان يلتزم بالشريعة الإسلامية . ويؤسس الإسلام السياسي في خطابه على هذه الفكرة في بناء الدولة الإسلامية التي يزعم تابعوه بموجبها بانهم خير مَن يصلح لقيادة المسلمين سياسياً . وفي الواقع فإن لفظ الحكم الوارد في القرآن لا يمكن فهمه وتفسيره لغوياً إلا بمعنى الحكم القضائي وليس السياسي. إنه يعني ألقضاء بين ألناس، او الفصل في الخصومات، أو ألرشد والحكمة . فهو يعني القضاء بين الناس: { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } (ألنساء 4 : 58) . وهو يعني الفصل في الخلافات: { إن ألله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون }(الزمر 39 : 3) . وهو يعني ألرشد والحكمة :{ ولما بلغ أشده آتيناه حكمآ وعلما }(يوسف 12 : 22). وجاء ايضاً على لسان موسى : { ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكمآ وجعلني من المرسلين }(ألشعراء 26 : 21). وفي القرآن عن بني إسرائيل: { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكمة والنبوة }(الجاثية 45 : 16) أي وهبهم التوراة والحكمة وكان منهم انبياء . وكذلك جاء في القرآن عن ألأنبياء جميعآ : { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكمة والنبوة} (الأنعام 6 : 89) وأغلب هؤلاء الأنبياء لم يحكم ـ بالمعنى السياسي ـ وإنما المقصود بالحكم أنهم أوتوا الحكمة . إن السلطة السياسية بالمعنى الذي يسمى في العصر الحالي : الحكومة ، عبَّر عنها القرآن بلفظ ( ألامر) ومن هذا اللفظ جاء لفظ ألأمير، أي الشخص الذي يتولى الحكم والسلطة، ولذلك لقَّب عمر بن ألخطاب نفسه، ولُقِّب الخلفاء من بعده بلقب أمير المؤمنين لا حاكمهم . وفي القرآن: { وشاورهم في ألأمر }(آل عمران 3 : 159) . { وأمرهم شورى بينهم }(الشورى 42 : 38) . وفيه { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في ألأمر }(آل عمران 3 : 152) . { يقولون هل لنا من الأمر من شيئ }(آل عمران 3 : 154).(الإستشهاد بالآيات القرآنية استناداً إلى ما جاء بكتاب " الإسلام السياسي " لمؤلفه المستشار محمد سعيد العشماوي والصادر عن مكتبة مدبولي الصغير بالقاهرة سنة 1996).
جميع قوى الإسلام السياسي تقف في صف واحد في عدائها للديمقراطية والدولة المدنية الحديثة الناشئة عنها. وقد تبين ذلك بوضوح لا يقبل الشك بعد ان بدأ يتهاوى، خاصة هذه الأيام، صنم ديمقراطية مثلهم الأعلى في الدولة الإسلامية التركية التي اعتبروها تمثل النهج الإسلامي الحق الذي نشأت عنه هذه الدولة التي زعمت انها تدعي العلمانية ايضاً. إن هراء الإسلام السياسي في فهمه للديمقراطية ينبع تماماً من ذلك الفكر الذي يكذب على الجماهير مستنداً هنا على ابتكاره لقاعدة فقهية تقول: " من الجائز ايهام القول لخداع العدو ". كما بينت التجارب التي تشبث بها الإسلام السياسي للوصول إلى السلطة في تونس ومصر ثم انقلب على هذه الديمقراطية ساعياً للتأسيس لدولته الدينية التي لا تعترف بغير عقيدتها المتخلفة في ادارة شؤون الناس ودولتهم. ولم يكتف الإسلام السياسي بكل فصائله من استغلال الديمقراطية ثم التنكر لها بعد وصوله إلى السلطة، بل عمل على تشويهها ايضاً، حيث جردها من انسانيتها التي لا وجود للديمقراطية الحقة بغيرها. فقد اعتبر الإسلام السياسي مفهوم الأغلبية الإنتخابية مفهوماً مجرداً ينظر إلى العدد الذي يمثله الإنسان في المجتمع وليس إلى موقعه كمواطن له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات التي تضمنها قوانين الدولة الديمقراطية لهذا المواطن بغض النظر عن عدده. ولكن الإسلام السياسي بكل توجهاته، وكما اشرنا اعلاه، لا يعترف بالوطن وبالتالي فهو لا يعترف بالمواطن إلا من خلال انتماءه للدولة الإسلامية وخضوعه لشريعة هذه الدولة التي يحكمها الأموات قبل الأحياء. ولا نريد إطالة الحديث حول عداء الإسلام السياسي للديمقراطية فنتطرق إلى مقولتين حول هذا الموضوع إحداهما لإرهابي إسلامي والثانية لفقيه محسوب على ما يسمى بالإسلاميين المعتدلين، وعلينا ان نقارن بين هاتين المقولتين علَّنا نجد فارق بينهما يتيح لنا الخروج من وهم التمييز بين التطرف والإعتدال في فكر الإسلام السياسي.
الإرهابي المعروف عمر عبد الرحمن يقول في كتابه " اصناف الحكام واحكامهم " ما يلي: "" وإن الحاكم الكافر اسس بنيان حكمه على شفا جرف جار من القوانين الوضعية فانهارت به في نار جهنم ... لأنه لا يقيم حكمه على اساس انه عبد الله، بل يرى انه او غيره ـ برلماناً كان او حزباً او هيئة او نظاماً ـ صاحب الحق في التشريع، انه قاتله الله كافر ""( ص.59) ثم يستطرد هذا الإرهابي في كتابه هذا على الصفحة 99 ويقول "" إن من قال ان التشريع حق البشر فهو ليس بمسلم "". المثال الثاني لهذا الفكر المعادي للديمقراطية جاء على لسان الشيخ محمد الغزالي الذي يصفه جميع رواد الإسلام السياسي بأنه يمثل الإعتدال في هذا التيار الإسلامي. لقد جاء في كتاب " الإرهاب .... اسلام ام تأسلم " للدكتور رفعت السعيد ص. 195 ما يلي: "" وفي شهادته امام محكمة امن الدولة العليا في قضية اغتيال د. فرج فودة كشف الشيخ الغزالي النقاب عن وجهه الحقيقي، وعن حقيقة افكاره ـ المعتدلة ـ . فالشيخ يقرر صراحة ان من يدعو إلى تطبيق القانون الوضعي هو بنص قول الشيخ: ليس بمؤمن يقيناً، ويخرج عن الملة ويعتبر مرتداً عن الإسلام "". الإرهابي عمر عبد الرحمن " والمعتدل جداً " الشيخ محمد الغزالي يكفرون من يدعو للعمل بالقوانين البشرية ، وعلى تابعيهم ان يعلموا ما هي عقوبة الكافر لينفذوها حيث أن الشيخ الغزالي يستطرد فيقول : إن إقامة الحد على الكفرة واجب ويمكن لآحاد الناس القيام به دون عقاب، ( نفس المصدر اعلاه ص. 195) . اي يحق لكل انسان ان يقتل الإنسان الآخر تنفيذاً لفتوى احد المشايخ بتكفير هذا القتيل، وهذا بالضبط ما حدث للدكتور فرج فوده. فهل لنا ان نتحدث بعد ذلك عن التطرف والإعتدال في فكر الإسلام السياسي؟
اندماج الفكر الديني للإسلام السياسي بمجريات السياسة اليومية وضعه في موقف حرج امام الأحزاب السياسية العاملة على نفس تلك الساحة التي يتواجد عليها، وذلك لما تفرضه العملية السياسية من ضرورة وجود برنامج سياسي للأحزاب المنضوية في العملية السياسية، يسمح لها بالعمل بين الجماهير وكسب ثقتها وبالتالي وقوفها إلى جانب هذا البرنامج. وبما ان احزاب الإسلام السياسي لا يوجد لديها اي برنامج يمكن وصفه سياسياً، وذلك بسبب قناعتها بأنها لا تحتاج إلى مثل هذه البرامج ولا حتى إلى دساتير او قوانين وضعية لأن القانون الإلهي وتعاليم السماء، التي يدعون حيازتهم عليها، تكفيهم لولوج العملية السياسية التي واجهوا على ساحتها شعارات وبرامج الأحزاب السياسية بشعار وبرنامج : الإسلام هو الحل، هذا الشعار الذي تتبناه كل فصائله دون تمييز
لقد طرح فكر الإسلام السياسي شعاره هذا إنطلاقاً من حالات البؤس والفقر والجهل والإضطهاد التي تعاني منها معظم المجتمعات العربية والإسلامية. وحينما طرحه الإسلام السياسي في المظاهرات والإجتماعات واللقاءات التي كان يقوم بها وفي مختلف نشاطاته الفكرية والإعلامية، فإنه طرحه كشعار عام دون ان يبين ما هو نوع هذا الحل الذي يراه الإسلام السياسي للمشاكل الإجتماعية والسياسية الإقتصادية والثقافية التي تعاني منها هذه المجتمعات. لقد طرحه كشعار مهلهل فضفاض جاعلاً من الإسلام ،كدين يرتبط به المجتمع بهذا الشكل او ذاك، مصيدة فكرية تجلب المستمع إلى هذا الشعار نحو الدين اولاً دون ان يفكر بطبيعة وجوهر هذا الحل. فيتبلور بذلك التوجه النفسي نحو الدين اولاً دون ان يكون لمتلقي هذا الشعار اي تصور حول الحلول التي لا يتطرق هذا الشعار إلى تفاصيلها. وهنا يضمن فكر الإسلام السياسي كسب متلقي الشعار عاطفياً اولاً. إلا ان هذا الكسب العاطفي سيشكل بعدئذ قاعدة جماهيرية تردد هذا الشعار دون ان تعي مضمونه وتفصيلات الحلول التي يريد ناشروه تحقيقها. وفي هذه الحالة يظل السؤال عن ماهية الإسلام المقصود " كحل " من خلال البحث في علاقة هذا الشعار بالواقع المُعاش اليوم والذي يطبع جميع مفاصل الحياة الإنسانية المتأثرة من قريب او بعيد بما تبلور عن الحضارة الحديثة وما تمخض عنها من مجتمعات تتلاقح مع هذه الحضارة او تتنافس مع بعضها البعض في صراع التلاقح الحضاري الذي لا يمكن ان تتجاهله مجتمعاتنا العربية والإسلامية الواقعة في خضم هذا التنافس الحضاري. وعندما ينبري الإسلام السياسي لطرح هذا الشعار كحل لمشاكل المجتمع، فإنه يسكت او يتجاهل عن اتخاذ موقف واضح حول ما يدور من تغييرات حادة في المجتمعات العربية والإسلامية التي تشكل في واقعها الراهن المستهلِكة للتقدم الحضاري دون قدرتها على المساهمة في انتاج مقوماته. كما ان سكوت او تجاهل الإسلام السياسي هذا يضعه في مواقف متناقضة مع محتويات شعاره الذي يؤمن بها باطناً دون ان يعلن عن خصوصياتها بين الجماهير التي رباها على الترديد الببغائي لهذا الشعار. ومصدر هذا التناقض هو رفض الإسلام السياسي لما يصفه " التشبه بالكفار " حيث انه يضع كل المساهمين في خلق مقومات الحضارة الإنسانية الحديثة ضمن مجموعة الكفرة التي لا ينبغي للمسلم إقتفاء اثرها في اي مفصل من مفاصل حياته اليومية، في الوقت الذي يلجأ فيه هذا الإسلام السياسي وبكل نشاطاته وفعالياته إلى هذه المقومات الحضارية التي اصبحت ملازمة لحياة الكثيرين من مريديه، خاصة في تلك المجتمعات التي توفرت لها بعض هذه الإنجازات الحضارية التي تطبع حياة الإنسان اليومية.
كما ان دعاة هذا الشعار لم يذكروا لنا : مَن سيحكم مَن في المجتمع الذي يسود فيه النظام الإسلامي؟ هل ستُتاح الفرصة لإنسان القرن الحادي والعشرين مثلاً ان ينطلق من مقومات حياته اليومية وعلاقة هذه الحياة بالآخر الذي تضمه هذه القرية الصغيرة المسماة بالعالم، ليؤسس لمجتمع يستمد تنظيم حياته اليومية في مختلف مفاصلها من قوانين يسنها هو بنفسه واستناداً إلى احتياجاته؟ او انه يجب ان يخضع لقوانين سنَّها او فسرها او اولها فقهاء او علماء القرون الأولى من التاريخ الإسلامي والتي اطلقوا عليها بعدئذ القوانين الشرعية ليواجهوا بها ما اسموه بالقوانين الوضعية التي رفضوها جملة وتفصيلاً. اي ان السؤال يمكن طرحه بالصيغة التالية : هل يسمح مضمون هذا الشعار بأن يحكم الأحياء انفسهم بانفسهم، ام انهم يجب ان يربطوا مقومات حياتهم اليومية بأفكار الأموات وما وضعوه لمجتمعهم في زمانهم الغابر ذاك من قوانين وتعليمات؟
كما ان دعاة هذا الشعار لم يخبروا متلقيه عن ماهية هذا " ألإسلام " الذي يتحدثون عنه. فحينما يواجههم البعض بهذا السؤال فسوف لن يجد امامه غير الجواب الوحيد الذي يقول بوحدة الإسلام في كل زمان ومكان. إلا ان هذه الوحدة التي يتحدثون عنها ما هي إلا ذات جوانب متعددة يمكن التعامل معها حسب التوجه الذي يمثله هذا الفصيل الإسلامي او ذاك. فكيف يتم هذا الأمر؟ حينما يتكلم فقهاء ومفكرو الإسلام السياسي عن وحدة الإسلام في كل زمان ومكان فإنهم يركزون دوماً على العبادات في الإسلام. وحتى هذه العبادات تختلف الفرق الثلاث والسبعين ومشتقاتها في كثير من جزئياتها، فإي اسلام من اسلامات هذه الفرق سيكون الحل ياترى؟
ففيما يتعلق بالعبادات فإن هذه الوحدة تعني لديهم بأن المسلمين جميعاً اينما كانوا ينطقون الشهادتين وجميعهم ملزمون بتأدية الصلوات الخمس وكلهم يصومون شهر رمضان ويؤدون الزكاة ويحجون إلى بيت الله الحرام إن استطاعوا إليه سبيلا. هذه الوحدة التي يتحدث عنها هؤلاء هي وحدة عرجاء إن لم تكن مُقعَدة. إذ ان كل مفصل من هذه المفاصل الخمسة التي يجعلونها الأركان الأساسية للدين لم يجر التعامل معه بنفس ذلك النمط الوحدوي الذي يزعمه فقهاء ومفكرو الإسلام السياسي. فقول الشهادتين الذي يكاد ان يكون الأكثر متانة في تمثيل الوحدة الإسلامية لا يخلو من بعض الإختلافات التي جاء بها احد المذاهب الإسلامية الذي ابطل الشهادتين دون شهادة اخرى ثالثة اضافها إليها. هذا بالإضافة إلى التصرف بهذا الشعار الوحدوي حسب الأهواء. فمجرمو داعش يصرخون " الله اكبر " حينما يذبحون ضحيتهم، وضحيتهم بدورها تصرخ تحت سكينهم " الله اكبر " ايضاً. ولعل ما جاء به الإسلامي صالح سرية في كتابه " رساية الإيمان " خير دليل على حقيقة فكر السلام السياسي حيث يقول "" إن تلاوة الشهدتين لا تخرج صاحبها من دائرة الكفر إلى دائرة الإيمان، لأن من قال لا إله إلا الله ولم ينقد لها، اي لم ينقد للكتاب والسنة فليس بمسلم ولا مؤمن، وإنما هو كافر كفراً صريحاً. اما المفاصل الأخرى في العلاقات والمعاملات فلا حاجة للتوسع في طرح الخلافات التي نشأت ولا زالت تنشأ حولها لدى المذاهب والفرق الإسلامية المختلفة، التي تشكل المذاهب الخمسة والفرق الثلاث وسبعون والملل التي تتجاوز المئات مواقع تواجدها وممارساتها. ففرائض الصلاة وكل ما يتعلق بها من اوقات وكيفية تأديتها وما يتلى فيها ومبطلاتها او معوقاتها وغير ذلك الكثير كما في المعاملات وطبيعتها وسبل تفعيلها في المجتمع والعلاقات وما يترتب عليها من احكام لا تكاد تنسجم ليس بين بلد وبلد ، بل حتى داخل البلد الواحد نفسه، كل ذلك يجعل مسألة وحدة الدين في كل زمان ومكان وحدة لا تستند على قاعدة ثابتة من الحقائق. ويكفي ان نقول ان الأمة التي لم تستطع شريعتها ان تنظم مسألة الإرث مثلاً بين منتسبيها على اختلاف مذاهبهم، او التي لا تستطيع ان تتعامل مع العِلم لتوحيد اعيادها الدينية كعيدي الفطر والأضحى، وبالتالي لا تستطيع توحيد بدء كل من هذه الأعياد، ألأمة التي لا تستطيع ان تتفق على تفسير بعض كلمات نصوصها المقدسة في القرآن والحديث . ان امة كهذه لا يمكنها الحديث عن وحدة دينها الذي يتنافس فقهاؤه على ان يحظى كل منهم بتفسيره الخاص للنص الديني وبالتالي بحكمه الخاص في هذا الأمر او ذاك. الأمة التي لا تستطيع ان تقدم حلولاً لمشاكل دينها لا يمكنها ان تقدم الحلول السياسية والإقتصادية والثقافية لمجتمعات متعددة وأقوام مختلفة.
وفي مثل هذا التشرذم في الدين الإسلامي والذي لم يأت جزافاً وإنما إنطلاقاً من مذاهب خمسة يتقاسمها المسلمون وكل من منتسبي هذه المذاهب والفرق الثلاث وسبعين التي إنبثقت عنها يدعي بأن فرقته هي الفرقة الناجية ومصير الفرق الأخرى النار، يبرز امامنا سؤال آخر نوجهه لدعاة شعار الإسلام هو الحل والمتعلق بطبيعة المذهب الذي سيمثل الإسلام الحل هذا؟ فهل هو إسلام الحنفي او الشافعي او المالكي او الحنبلي او الجعفري؟ وإذا جرى التأكيد على واحد من هذه المذاهب والذي سيكون المشكلة وليس الحل، إذ ستتصدى له المذاهب الأخرى، فهل سيلتزم هذا الإسلام بتعاليم واحدة او اكثر من فرقه وتجمعاته؟ وامامنا اليوم مثالان صارخان احدهما في دولة ولاية الفقيه في ايران التي تنتسب إلى المذهب الجعفري والتي لا تحظى برضى وتأييد الفرق الأخرى حتى في هذا المذهب . ونظام آل سعود الذي يستند على الوهابية في المذهب الحنبلي والذي لا يتفق معه حتى بعض منتسبي هذا المذهب، ناهيك عن المذاهب الأخرى. فأي إسلام من هذين الإسلامَين هو الحل يا ترى؟ لهذه الأسباب مجتمعة وغيرها لا نجد مجالاً لوجود اعتدال وتطرف في هذا الفكر الذي يسعى لتطبيق هذا الشعار كل حسب هواه، وإن لم يتحقق هذا الهوى، فحد السيف هو الفيصل، وهذا ما يعيشه عالم اليوم من جرائم ترتكبها الدولة الإسلامية التي تستمد كل مبررات جرائمها من النصوص التي يتبناها الإسلام السياسي بكل فصائله.
وإذا ما اردنا التعمق في هذا البحث لتأكيد الوهم بوجود إعتدال وتطرف في فكر الإسلام السياسي وتصرفات اتباعه، فسوف يطول بنا الحديث وتتزاحم امامنا الأمثلة التي تؤكد عدم وجود مثل هذه المصطلحات اساساً في فكر الإسلام السياسي. والمواضيع التي يشملها مثل هذا الحديث ستتشعب ما بين الموقف من الآخر المختلف، مسلماً كان هذا الآخر او غير مسلم. كما سيجرنا الحديث ايضاً إلى موقف مفكرو الإسلام السياسي وفقهاؤه الرافض للعلم الحديث وكل ما انتجته العلوم في علم الفلك مثلاً حول الأرض والشمس والقمر وولوج الفضاء وما شابه. او في علوم الفيزياء والكيمياء والطب والعلوم الطبيعية الأخرى، في الوقت الذي يوظفون ما توصلت إليه هذه العلوم التي يرفضونها في جميع مفاصل حياتهم اليومية، وهذا هو عين النفاق الملازم لطبيعة فكر وعمل الإسلام السياسي. وحتى رفضهم للعلوم الإنسانية التي مارسها الفلاسفة كابن رشد والكندي والرازي وابن سينا وابن الراوندي وحتى الفقيه المتنور ابن عربي،والكثيرين غيرهم، اصبح من العلامات الفارقة لكل ما يطرحه الإسلام السياسي من فكر متخلف وتوجه رجعي مقيت يستغبي به الجماهير الجاهلة ويعمل من خلاله على استمرار هذا الجهل والتخلف، إذ ان الجهل هو الحاضنة الأساسية لفكر كهذا.