المنبرالحر

المياه الراكدة.. لا تبقى على حالها / لفته عبد النبي الخزرجي

إن العلم يرفض مصادرة العقل، كما يرفض التكهنات في تفسير الحوادث الطبيعية، والعلم متمسك بقدرته على معالجة الصراع القائم بين الطبيعة والإنسان.
قالها فيلسوف يوناني ((انك لن تعبر النهر مرتين)) لكن هذا لا يعني أن الآخرين سيقتنعون بهذا الأمر، فقد قالها "غاليلو" لكنه عد زنديقا، لم يتخل عن إيمانه، فقد كررها ثانية، الأرض تدور،نعم إنها تدور، ولن تتوقف،أنها تدور لتصنع لنا الليل والنهار والساعات والأيام والأسابيع والشهور.
لكن الذين يقولون (لا اجتهاد أمام النص) لا يمكنهم أن يدركوا قدرة العقل الإنساني، ولا يمكنهم أن يستوعبوا أن الإنسان في صراع دائم مع الطبيعة، وان الصراع بين القديم والجديد يحتل مساحة واسعة في هذا الصراع. ولذلك فأن هذا ما حدا بالدكتور نصر حامد أبو زيد إلى أن يؤكد في أطروحته التي لم يستكملها فعاجلته المنية Emoticon frown آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا،علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان). مجلة الثقافة الجديدة \ العدد 331 \ 2.1.
ولماذا نذهب بعيدا، فهذا التطور العلمي وهذه التكنولوجيا عالية الجودة وهذا الإنسان المسلح بالعلم والمعرفة والثقافة ذات المنظور الإنساني والعلمي المتطور.هذا كله يؤكد ويشير بقوة إلى أن الحياة ليست بركة هادئة، كما أن الأنظمة السياسية أو الاجتماعية او الدينية او الاثنية او غيرها، لا يمكن ان تستمر طويلا، فهي خاضعة لقانون التطور والتحول والتغير والتبدل(الديالكتيك العلمي) وفي هذا الصدد يقول ماركس (إن التكنولوجيا تبرز أسلوب عمل الإنسان تجاه الطبيعة، أي العملية المباشرة لإنتاج حياته وبالتالي الظروف الاجتماعية لحياته والأفكار والمفاهيم الفكرية التي تنجم عن هذه الظروف.) كارل ماركس (عن كتاب لينين \ سلسلة دار الرواد المزدهرة \ عن رأس المال المجلد الأول)
ولابد أن نناقش الموضوع من جوانبه المتعددة. ونحن في هذا الصدد وعندما نتناول الوضع السياسي والمماحكات التي تشهدها الساحة السياسية، تجعلنا أمام خيارات مرة، فالقوى السياسية الاسلاموية، وبجميع أجنحتها المتباينة، وما تطرحه من رؤى متباينة أيضا، إنما تنطلق من مرجعياتها الفكرية المتصارعة منذ أكثر من عشرة قرون. أن هذه القوى لم تستطع تكريس منطق الواقع، ولا يراودها أيما شعور بمسؤولية ما تطرحه تجاه المعطيات الجديدة في مجالات العلم والأخلاق والاقتصاد والنظام العام والقوانين الإنسانية وما يقدمه المجتمع الدولي من خلال المنظمات الدولية من معايير، وهي مصرة كل الإصرار على نهجها الثابت ولا تبذل أيما جهد في مجال التفاعل مع منطلقات الحياة الإنسانية الواقعية، مما يضعها في موقف لا تحسد عليه.
إن الإصرار على النهج السلفي والتمسك الشديد بالمعايير التي احتكم الأولون إليها، إنما يؤكد عدم قدرة هذه القوى على التواصل مع الحراك الإنساني وبقائها حبيسة أفكارها القديمة. ويطرح الدكتور هادي محمود في كتابه (التوظيف السياسي للفكر الديني) هذه المسألة على الشكل التالي :((هل يجب أن نحتكم في حلولنا المشكلات المعاصرة إلى المعايير نفسها التي سبق وان احتكم الأقدمون إليها وهل أن مشكلات الحاضر هي نفسها مشكلات الأقدمين؟)).
إن هذا الصراع الذي يتخذ طابعا ثقافيا، رغم ما يواجهه من ردود فعل متباينة من تلك الأطراف، لا يمكنه أن يستمر طويلا، من دون ان تكون هناك خيارات تنزع فتيل هذا الصراع لتوظفه في خدمة الإنسان، لان المياه الراكدة لا يمكنها أن تبقى على حالها، فالأمطار لابد أن تمنحها القدرة على الانسياب بعيدا عن بحيرتها، وجفاف الأرض يستوعبها في أعماق التربة، وهذا هو جدل الحقيقة (الديالكتيك العلمي) لان الاعتماد او الاحتكام إلى القدرية الصرفة ومحاولة تهميش او تغييب فاعلية الإرادة البشرية، إنما هو قفز واضح واستهجان صريح لقدرات الإنسان وإبداعاته وفاعليته في صناعة التاريخ.
إن الاستناد إلى الأحكام التقليدية الثابتة، ومعالجة الأمور المستعصية في ضوء النصوص (التي لا مجال للاجتهاد فيها) وعدم التفاعل مع ما يطرحه العقل البشري، وان التمسك بالموروث من دون بذل الجهد الكافي لمعاينة الفارق الزمني، إنما يعني الانزواء والابتعاد عن الأطروحة الواقعية. وفي هذا الإطار يقول الدكتور علي الوردي (إن المقدس يلغي العقل،وإلغاء العقل خراب الدنيا) ونقرأ أيضا في كتابه عن مقدمة ابن خلدون الشهيرة (ان المجتمعات ليست جامدة أي ان الظواهر الاجتماعية تتبدل وتتطور) هذا هو قانون الحياة، لا شيء يبقى رتيبا، لا شيء يبقى جامدا، بل ان الواقع في حراك متواصل، وحيث ان الإنسان ابن هذا الواقع لا يمكنه ان ينسلخ عن هذا الحراك، ومن يتمسك بعقلية الجمود، او يتخلف عن مسار الحياة، سيجرفه التيار ويغرقه الطوفان كما يقول الوردي.
ورغم ان الماركسيين في أوربا قد تصدوا للدور القمعي الذي مارسته الكنيسة وقدموا عشرات المفكرين ورجال العلم والمعرفة على مذبح الحقيقة، إلا ان هذا لايعني ان يتكرر المشهد في بلادنا (فالماركسيون واليساريون في بلادنا يجب ان يدركوا بأنهم لا يتعاملون مع الدين او الظاهرة الدينية في نفس العصر الذي كتب فيه ماركس تحليلاته عن الوظيفة الاجتماعية والدور الذي يلعبه الدين في المجتمع)
ولا بد ان يكون هناك تمييز واضح بين أوربا قبل قرنين من الزمان وبين الواقع الذي نعيشه، ((وعليه ينبغي التمييز بين الدين كمعطى ثقافي وحضاري وتراثي وكحاجات روحية لأفراد بشكل عام من جهة وبين الفكر الديني من جهة أخرى الذي يطرح نموذجا ومثالا سياسيا للسلطة، وفي مجال تأطير المجتمع بغية تقبل تلك السلطة))
وهذا يدعونا إلى المزيد من الجهد والمثابرة لإيضاح موقف اليسار في هذا الجانب.
(ان منطق العلم الواقعي لا يقف أمامه شيء وهو سيغلب المنطق القديم كما غلب الرشاش أصحاب السيف في تنازع البقاء).
ان المنطق الذي يلتزم المعايير التي عفا عليها الزمن.. ويتمسك بالنصوص والقوالب الجامدة بعيدا عن حركة التأريخ.. وبالضد من الحراك الاجتماعي والمقاييس العلمية والإنسانية.. لا شك سيبقى بعيدا عن توجهات العصر وتحولاته وحركته المتصارعة (لان موكب التأريخ سائر دائب في سيره وهو لايعرف التفاضل على أساس المقاييس الاعتباطية التي يتخيلها الفلاسفة من أصحاب البرج العاجي ومن لا يساير الزمن الآن، داسه السائرون بأقدامهم إذ هو يستغيث فلا يسمع استغاثته احد.)
ولو أخذنا مثالا ناصعا من التاريخ العربي والإسلامي.. وهو المتمثل بشخصية الإمام على (ع) هذا الإنسان العظيم الذي كرس حياته لخدمة البشرية والعدل الاجتماعي، لكن هذا الإمام ((لا يذكره البعض إلا انه مجرد إمام اوجب الله حبه على العباد، أما ذلك الكفاح الجبار الذي قام به في سبيل العدالة الاجتماعية فلا أهمية له عندهم)).
ولو بقي الأمر في إطار الصراع الفكري والثقافي، فليس هناك ضير أبدا، إلا أن السيف كان ومازال هو الفيصل في حسم هذا الصراع لصالح الفئة الحاكمة وتقاليدها السلطوية الاستبدادية، أما الأفكار فليست بذات مكانة في مجتمع لا يقبل التناظر الفكري ولا يستسيغ الأفكار التي تسعى إلى الخروج من شرنقة النسيج المتحكم بالسلطة ((وكل ذي عقل يعرف أن المناظرات التي يحكمها السيف ويكون لسانها الذي لا ينطق لسان سواه،لا يمكن لحرية البقاء في الدين، أن تتوازى فيها مع حرية الخروج منه، وتلك حال غلبت، إبان الحقبة إياها، وما قبلها وبعدها، في ثقافات أخرى ركب الحكام فيها عربات العقائد، وجعلوا من الأديان خادمة لسياساتهم وسلطانهم. وفي مثل هذه الأحوال لن يعود إلى منطق العقل وحججه، وحرية الإيمان فكرا وروحا، من معنى يذكر، وتأخذ الأحداث مجارٍ تتناقض وما تأتي به آيات من الكتاب.))
لكننا ونحن نتلمس التراث لا بد ان نعي بأن الماضي هو المعين الذي لا ينضب والمخزون الفكري الذي يمدنا بالمزيد من القدرة والطاقة لتجاوز مشكلات الحاضر صعودا نحو بناء قاعدة المستقبل التي ستتواصل مع حركة العلم وإفرازاته لخدمة البشرية، وفي الوقت نفسه سيكون سلاحنا لبناء بلادنا هو العلم لمواصلة الصعود لبناء مستقبل وطننا والارتقاء لبناء دولة القانون والمؤسسات، دولة الشعب الذي يريد الانطلاق من اسر التحكم والتهميش والإقصاء، ليبني دولة المواطنة، الدولة التي لا تهمش أحدا ولا تقصي أحدا ولا تستثني أحدا ، الدولة المدنية العصرية، دولة المؤسسات والهوية الوطنية والعدالة الاجتماعية.