المنبرالحر

دور الاستعمار في نشوء الظاهرة الارهابية في المنطقة العربية / رضي السمّاك

مع اننا لسنا مع نظرية المؤامرة في تفسير الأحداث التاريخية الكبرى في العالم العربي، ولاسيما في تاريخنا الحديث ، وذلك بإلقاء تبعية ما يجري فيه من أحداث جسام في حقبته الراهنة على العوامل الخارجية فحسب وتجريد العوامل الذاتية من أي دور في وقوعها ، إلا ان ذلك لا ينبغي لنا بأي حال من الاحوال عزل هذه الاحداث أو اقتطاعها من سياق تأثير العومل الموضوعية الذي مرت به شعوبنا العربية والمتمثل على وجه الخصوص في اخضاعها للاسترقاق الاستعماري طوال حقبة من الدهر ، مما أدى الى تشوه ونمو تطورها الحر المستقل على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ، ولم يرحل الاستعمار القديم إلا وقد حفر حفرته المستديمة على بنيات انتاجية متخلفة في هذه البلدان ببناها الفوقية الثقافية والسياسية التي أفرزتها موضوعياً مشوهة بدورها ، بما في ذلك نخبها السياسية والمثقفة. بعبارة اخرى، إن تلك الظروف التاريخية المعقدة وتأثيراتها الاجتماعية والنفسية والثقافية التي تركتها الحقبة الاستعمارية الكولونيالية الاوروبية ما برحت شعوبنا العربية تعاني منها، وبخاصة انها لم تتحرر من تلك الحقبة الا منذ عقود قليلة فقط . إذ عمل الاستعمار على دفع هذه الشعوب إلى المزيد من التخلف، واستنزف ثرواتها بالنهب غير المشروع استنزافاً منهجياً طوال هيمنته الطويلة على مقاديرها . ومن شواهد تلك التركة الاستعمارية الطويلة فان نسبة الامية المرتفعة في بعض البلدان العربية ، كمصر على سبيل المثال لا الحصر ، أكبر هذه البلدان سكاناً وأهمها من حيث المكانة الثقافية والحضارية حيث لازالت نسبة الاُمية فيها تفوق ال50% ، وحينما تصل نسبة الاُمية في مجتمع ما إلى هذا المستوى فلك أن تتخيّل تدني الوعي السياسي لديه بضرورة الديمقراطية ولو بالنسبة نفسها في أحسن الفروض . علماً بأن الاستعمار صادر حقوق شعوبنا العربية السياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية والاجتماعية كافةً ، ولم يسمح حتى في أحسن الأحوال سوى بالتطور الديمقراطي الشكلي المقيد والمشّوه ، كما هو الحال في النموذجين المصري والعراقي تحت الاحتلال الانجليزي .
ولو ان الشعوب الاوروبية والغربية عامةً وعت بهذه الاشكالية التاريخية المعقدة التي مرت بها شعوبنا العربية لأدركت ان انظمتها السياسية الاستعمارية التي تفتخر بالديمقراطية وحقوق الانسان و تنادي بها انما تتحمل جزءاً كبيراً اخلاقياً وأدبياً من المسؤولية التاريخية لكون نبتة الارهاب الشيطانية في التربة العربية ولاسيما في الجزيرة العربية، التي تُعد مصدر الوباء الفكري الديني الذي تم تصديره الى سائر البلدان العربية بل وبلدان عديدة من العالم وباتت اليوم تهدد الشعوب الاوروبية ذاتها في عقر دارها . وبالتالي فلم تكن مصادفة تاريخية أو فجأةً قد ظهرت هذه الشجرة الشوكية بثمارها المرة في التربة العربية أو هبطت على عالمنا العربي من كوكب آخر ، وإلا فلماذا لم تظهر مثل هذه " النبتة " تحديداً في التربة الاوروبية ذات التطور الديمقراطي المستقل المديد ؟ أو في البلدان التي لم تمر بظروف تاريخية واجتماعية بالغة التعقيد شبيهة بالتي مرت بها جُل الأقطار العربية كأميركا اللاتينية مثلاً ؟ وهكذا فإن دور العامل الاستعماري التاريخي والانظمة الدكتاتورية العربية الشمولية التي جاءت من بعده شكلا معاً دوراً في تمهيد التربة لنمو نبتة الظاهرة الارهابية في المنطقة العربية ، وهذا لا ينفي بطبيعة الحال دور العوامل الاخرى التي تضافرت معه والتي ليس هنا موضع تناولها في هذه العجالة .
الخطر من ذلك ان الاستعمار الغربي ، وعلى الأخص البريطاني، عمل على توريث وزرع واحداً من أخطر اشكال الاستعمار الحديث في قلب الوطن العربي ألا هو الاستعمار الاستيطاني ممثلاً في اقامة الدولة الصهيونية العنصرية الارهابية على أرض فلسطين العربية بالقوة وتشريد معظم شعبها ، ومازالت هذه الدولة السرطانية الغريبة على أعضاء الأقليم الجغرافي السياسي العربي منذ نحو سبعة عقود تمثل العقبة الكأداء في تطور كل شعوب البلدان العربية ، وليس الفلسطينيين وحدهم ،ومصدراً دائماً لإثارة الاضطرابات والحروب وعدم الاستقرار في المنطقة برمتها وذلك بسياساتها العدوانية ومطامعها التوسعية وتعجرفها المستديم في رفض اي تسوية تضمن ولو الحد الادنى من الحقوق العادلة للشعب العربي الفلسطيني، مهما قدّمت قيادة هذا الشعب من تنازلات ، وما زالت الدولة العبرية تصر على ضم الجولان السوري المحتل إلى " دولتها " ، وبطبيعة الحال ما كانت لتقف كل هذه المواقف المتعنتة لولا ما تتمتع به من مختلف اشكال الدعم السياسية والاقتصادية والعسكرية الامبريالي الاميركي كوجه للاستعمار الجديد وهي الداعم الأول لاسرائيل بلا حدود في مختلف المجالات ، فضلاً عن الدول الغربية الاستعمارية السابقة نفسها .
ولو أن الأقطار العربية قُدر لها تاريخياً ألا تتعرض لذلك الظلم التاريخي من الاستعمار الاوروبي القديم ، والحالي ممثلاً بالاستعمار الاميركي الجديد، أو لنقل في أدنى الفروض : لو ان هذا الأخير الذي حل محل الاستعمارالقديم لم يعمل على عرقلة تنامي وعي شعوبنا بأهمية الديمقراطية ودأبه على مساندة الأنظمة الشمولية وتلمس الاعذار لها في قمع شعوبها للحيلولة دون نيلها مطاليبها المشروعة في الحقوق الديمقراطية او انتفاضاتها وثوراتها المطلبية من أجل الاصلاحات الديمقراطية الشاملة الجذرية أو لإقامة أنظمة ديمقراطية في ظل تعذر اصلاح الانظمة المتهرئة القائمة فهل كانت التربة العربية ستكون صالحة لتنبت فيها تنظيمات كالقاعدة أو "داعش " و " جبهة النصرة" وأضرابهما من الجماعات الارهابية التي تعيث في المنطقة العربية ولاسيما في سوريا والعراق فساداً غير مسبوق على امتداد آلاف السنين منذ الفجر التاريخي الحضاري لهذه المنطقة !
و المضحك المبكي ان كلا الطرفين اليوم ، الدول الاوروبية الغربية الاستعمارية، ومعها الولايات المتحدة من جهة ، والدول الشمولية العربية المتحالفة معها من جهة اُخرى باتا يشكوان ارهاب "داعش " وكأن لا صلة لكلاهما على الاطلاق من قريب او من بعيد في تمهيد التربة والمناخ لنمو بذرته والتي من نتاجها كما نعلم ولادة التنظيم الاُم "القاعدة " إبان تعبئتهم دينياً ونفسياً على تأدية فريضة "الجهاد " ضد ما يزعمونه بالاحتلال السوفييتي "الكافر" لافغانستان ، كفريضة مقدمة على الجهاد من أجل تحرير بيت المقدس والمسجد الأقصى حيث اولى القبلتين وثالث الحرمين وبتشجيع ودعم مالي وعسكري غير محدود من قِبل الولايات المتحدة وبما يخدم في المقام الأول مصالحها الاستراتيجية في المنطقة في سياق حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي .
وللأسف لم يكن أي من الطرفين الاميركي والعربي حينها خلال سكرة كلاهما بمهمة طرد الوجود العسكري السوفييتي من افغانستان مبالياً لا بالنظام الذي سيحل محل النظام اليساري الافغاني المنشود ازالته ولا بما سيفعله المجاهدون الخليجيون والعرب الذين اكتسبوا أعظم خبرة قتالية مميزة بعد عودتهما إلى بلدانهم ،و لتبدأ منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي وحتى بعد انهاء الوجود العسكري السوفييتي في أفغانستان ، فانهيار الاتحاد السوفييتي فصولاً جديدة من ملهاة الكوارث والمآسي الدامية مازالت تتوالى على أيدي "التنظيم " الاُم والتنظيمات التي انشقت عنه ، على نحو ما نشهدها في سوريا والعراق وليبيا ومناطق اخرى من عالمنا العربي .