المنبرالحر

الأقلية تدافع عن حقوق الأكثرية/ عبد الزهرة زكي*

كان الطريق سالكاً ومريحاً من البيت حتى تقاطع الخط السريع / الباب الشرقي. تستطيع هذا اليوم 31 آب 2013، كما بدا لي، أن تتحرك بمرونة في معظم أنحاء الرصافة لكن الوصول إلى مركزها الممتد من الباب الشرقي حتى ساحة الفردوس، وربما ساحة كهرمانة، أشبه بالمستحيل. قبل بلوغ الباب الشرقي مررت بقاسم محمد عباس وكان بتخطيطنا الاتجاه إلى ساحة التحرير قبل التوجه نحو ساحة الفردوس.

لم يكن ممكناً دخول الباب الشرقي سواء للسيارات أو المشاة. فأسفل الخط السريع كانت عجلات القوات الأمنية تقطع الشارع المؤدي إلى الباب الشرقي وساحة التحرير، بينما لاحت لنا من بعيد أسلاك شائكة بارتفاع أكثر من متر أمام مستشفى قوى الأمن الداخلي (قيد الانشاء وسابقا كان نادي ضباط الشرطة) كانت تقطع الشارع على المشاة بالاتجاهين، وما بين العجلات والأسلاك وأمامهما وخلفهما، كانت قوات أمنية مختلفة على مستوى عال من الاستعداد والجاهزية لـ (التعامل) مع أي (خرق) لهذا السياج الحديدي الشائك.

قلت لقاسم: يبدو أن الحكومة مع جماعة ساحة الفردوس ضد جماعة ساحة التحرير، فمنعت الوصول إلى (التحرير) لإرغام الناس على الذهاب إلى (الفردوس).

قاسم دائما مع (التأويل المفرط) فرأى أن (التحرير) تحيل إلى (الربيع العربي) بينما (الفردوس) تذكّر بالتاسع من نيسان، فلا بأس في هذا.

استدرنا باتجاه الخط السريع، لنتركه مع مَخرج ساحة الأندلس، حيث ترجلنا من السيارة قرب مبنى اتحاد الأدباء. ففي الساحة كان الاتجاه المؤدي نحو الباب الشرقي مغلقاً بعجلات الشرطة، وكذلك الاتجاه نحو ساحة كهرمانة، وليس أمام السيارة إلا أن تستدير أو أن تذهب جنوباً نحو ساحة عقبة بن نافع أو قبلها نحو الكرادة.

كان اتجاهنا نحو ساحة الفردوس، فكّرنا بالزقاق المحاذي لفندق السدير، لكنّ شرطياً طيباً نصحنا بزقاق آخر يمكن أن يؤدي إلى الفردوس إذا ما (تساهل) شرطة آخرون هناك.

في ذلك الزقاق الذي لا يمتد لأكثر من مئتي متر أجتزنا أكثر من سيطرة لرجال شرطة، كان كبر السن وهيئتنا وادعاؤنا الذهاب بواجب إعلامي لمقر قناة الحرة في فندق فلسطين يسهّل مرورنا الذي رافقنا فيه بالمصادفة شاب مازال الضماد على ساعده نتيجة إصابته بتفجير إرهابي في منطقة المدائن، فكنا نستمع منه إلى روايته لحادث التفجير.. قبل أن نفارقه سمعته يردد مع نفسه: لو أن مثل هذه الاجراءات تتبع ضد الإرهاب والإرهابيين لتخلصنا من شرّهم منذ سنوات.

لم نتفاجأ، أنا وقاسم، حين بدت لنا ساحة الفردوس وقبل بلوغها مهجورة تماماً.. سيطرات الشرطة العاديين التي اجتزناها استعيض عنها بضباط ورجال شرطة، ربما هم من مكافحة الشغب أو (سوات)، لم أنتبه لذلك.. كانوا بتجهيزات قتالية كاملة وعلى صدر كل منهم تتدلى قنبلة غاز مسيل للدموع، بينما كانت ملامحهم تمحو أي تعبير عنها سوى ملامح شكوكية وكراهية لأي فرد يقابلونه، صمت كامل يكتفون معه بالاشارات، وفي محيط الساحة كانت سيارات سوداء دفع رباعي لضباط قادة انعزلوا في قلب الساحة وتحيط بهم مجاميع من حماياتهم بأصابع على الزناد وبعيون تتربص بالجميع. لقد كتبت مرة أننا، كشعب، ندفع من مواردنا مليارات الدنانير شهرياً على مثل هؤلاء ليس لأجل حمايتنا وإنما لأجل قوات تحمي نفسها. كنت حينها أتحدث عن قوات تحمي نفسها من اعتداءات الارهاب، وكنت أجد في ذلك مبالغة، لا بأس ومن المهم أن تحمي القوات وقياداتها نفسها ولكن قبل هذا عليها أن تؤمّن حمايتنا، في الأقل بعدالة وتوازن بين ما تحمي به نفسها وما يمكن أن تحمينا به، لكن هذه المرة أنا أمام صورة أخرى لقيادات وقوات ننفق عليها من أجل أن (تحمي) نفسها من خوف متوَهَّم، خوفها من مواطنين عزّل ومدنيين يدافعون عن حق الشرطي والجندي وسواهما في المال العام مثلما يطالبون بحقهم في الوصول إلى تشريع يوقف مهزلة فساد كبير ويحمل الصفة الشرعية، فساد رواتب التقاعد للبرلمانيين وغيرهم.

استمرينا بالإدعاء أن الفندق وقناة الحرة هما وجهتنا.. كان الجو قد بدأ يزداد حرارة، وكانت أعماقنا هي الأخرى تغلي بغضب من هذا المآل الذي انتهينا إليه، وهو مآل يجد فيه المتمرد المسلح طريقه أكثر يسراً لتنفيذ هدفه الإجرامي بينما تستخدم القوة بكل وضعها المنظم للحيلولة دون احتجاج سلمي ديمقراطي مدني على فساد أعلنت معظم قوى البرلمان، ومنها كتلة الحكومة، أنها ضده وأنها مع مطالب الشعب بإيقافه ومنعه وبطريقة دستورية. في الحقيقة كنا، قاسم وأنا، ربّما المتظاهرَين الوحيدين اللذين بلغا ساحة الفردوس.. لكن هل بلوغ الساحة هو الهدف أم هو مشاركة الناس التظاهر وإعلان المطالب؟ قبل الاتجاه نحو (الفردوس) وأمام مستشفى الدكتور الراحل كمال السامرائي (كم أحببت كتاب مذكراته، رحمه الله، حين صدوره في التسعينيات) شاهدنا حشداً من متظاهرين يهزجون ويرفعون أعلاماً وطنية ويافطات ضد تقاعد البرلمانيين، وكانت قوات أمامهم تحول دون اندفاعهم باتجاه (الفردوس) ومن أجل ابقائهم في مكانهم قرب المستشفى.

حين دخلنا ما بين فندقي عشتار وفلسطين تزودنا من كشك هناك بقناني ماء بارد وقررنا العودة إلى حيث التظاهرة الصغيرة في الأندلس عند مستشفى الدكتور السامرائي.

من الأزقة كانت تخرج مجاميع من شبان لطيفين كانت تبحث عن طريق مستحيل إلى الساحة، بعضهم يغلب عليه اندفاع الشباب فيقرّع رجال الشرطة الذين يفترض بهم الوقوف مع حق الناس بالتظاهر السلمي لهدف شعبي عام يشترك فيه الجميع، ولم ينس بعضهم أن يذكّر أفراد الجيش والشرطة بزملائهم المصريين، كان الجنود والشرطة يكتفون بالصمت وبملامح يمتزج فيها الرضا والسخط بطريقة غريبة.

كان واضحاً أن المتجمهرين قرب المستشفى بأغلبهم هم من سكان الأحياء القريبة، الكرادة والعلوية ودار السلام، وكانت الهوية المدنية هي الغالبة، عدد قليل من نساء ليبراليات وشيوعيات وكثير من شبان وهذا هو المهم، إلى جنب أقلية منا، نحن الشيوخ، الأبطأ إيقاعا والأشد تحسّباً ورويّةً.

لم تكف شعارات (المجاملة) التي رفعت في هذه التظاهرة والتي كانت موجهة نحو الجيش والشرطة لاستمالتهم للتعاون مع الحملة الشعبية ضد فساد رواتب التقاعد، لم تكف لتحدَّ من (التقييدات) الآخذة بالتكاثر، وكلما تكاثرت أعداد المتظاهرين وارتفع الصوت المحتج مع وصول مجاميع شبابية تريد لصوتها أن يُسمَع. كانت القوات تتزايد وتبدي توترا وانفعالا واضحين.

زملاء وأصدقاء صادفتهم هناك، كانت سعادة الجميع لا تمنع من أن يبدوا تذمرهم من هذه الاجراءات التي حالت دون وصول الناس.. لم يكن هناك من شعار مناوئ لجهة بعينها، لا غرض للتظاهرة والمتظاهرين سوى الحث على تشريع قانون يمنع تقاعد البرلمانيين ومن مثلهم. كان واضحاً أن المخاوف الحقيقية للسلطات ليست من احتمال استهداف المتظاهرين من قبل الإرهابيين مع أهمية التحسب لهذا، لكن الخوف كان يتجه نحو احتمال أن تـُستـَغل التظاهرات من قبل قوى سياسية مناوئة وحليفة على حد سواء واستثمارها لأهداف سياسية غير أهدافها المعلنة.

أنا أيضاً كنت أتوقع هذا لكن واقع الحال أثبت أن لا طرف سياسياً كان هناك وعمل من أجل استغلال التظاهرة، نعم كان هناك شيوعيون، ولكن لم يكن في تفكيرهم وتصرفهم ما يحيل إلى ذلك التوقع، خصوصاً أنهم ليسوا في دائرة الاصطراع الراهن والجاري بين قوى البرلمان نفسها، كما هم ليسوا من المعارضين الخارجين على العملية السياسية.

كان من المفترض بالحكومة وكتلتها الأكبر (دولة القانون) وحزبها الرئيس (الدعوة الإسلامية) أن تكون مثل هذه الصورة، صورة عدم تفكير منافسيهم بالتظاهرات، واضحة لهم.. وكان عليهم، حتى من أجل حسابات الاستثمار السياسي الانتخابي، أن لا يترددوا في المشاركة فيها ودعمها خصوصاً أنهم أعلنوا تأييدهم إيقاف تقاعد البرلمانيين وسواهم، لكن حسابات السياسة العراقية دائماً تأتي متأخرة، فلقد أعلن رئيس الوزراء وحينما أوشكت التظاهرات على الانفضاض دعمه للمطالب، بينما كانت الاجراءات الحاصلة على الأرض تعارض هذا الدعم الذي جاء على الفضائيات.

حين غادرت وعدت إلى بيتي كنت في الطريق أفكر: لمصلحة مَن يجري تيئيس الناس من استخدام السبل الديمقراطية في الاحتجاج والاعتراض ودفعهم للتفكير بأن الحلول هي دائما بوسائل أخرى غير وسائل المدنية والديمقراطية؟ وكانت قناعاتي تذهب إلى أن التمرين على الديمقراطية يتطلب نفسا طويلاً، تنجح اليوم أقلية من الناس تملك صوتاً لتعبر عن رأي أكثرية صامتة حتى نصل إلى يوم تكون فيه الأكثرية حامية لحقوق الأقلية في أن تتكلم وتحيا وتتطلع بحرية وسلام.

*موقع المسلة