المنبرالحر

أنا أحبك ...أحبك يا عراق/ د. حافظ شكر التكمجي

أنني أحبك منذ نعومة أظفاري ... منذ لحظة اكتشافي أنك الحياة، وبدونك ليس للحياة قيمة ومعنى. وازداد حبي لك ياعراق بمرور الأيام والأعوام. ومع تعاقب الأحداث والانفتاح على مفردات العيش والعلاقات الاجتماعية، ومع زيادة الاطلاع عبر القراءة ارتفع عندي مستوى الوعي بما يجري من حولنا. وزاد حبي لك فيما بعد ياعراق عندما اكتشفت معاناتك وشعبك من جور وظلم واستغلال وتجويع وتخلف سببته القوى الاجنبية التي سيطرت وما زالت مسيطرة على مرافق الحياة والمجتمع ووجهته لصالحها.

إن الجزء الكبير من  إدراك هذا الواقع المرير الذي خلفه ومازال يخلفه لنا الاستعمار بكافة أشكاله السياسية والادجتماعية والثقافية، يعود إلى التقائي الفكري مع أهم وأكبر رموز الفكر والتنوير والعمل المخلص والجاد لتحريرك ياعراق. هذا الرمز الذي عمل دوماً على الأخذ بيديك كي تضع قدميك على الطريق السليم المؤدي إلى البناء والاصلاح والتقدم بكل اخلاص وتضحية ونكران ذات. إن هذا المصدر الملهم هو الحزب الشيوعي العراقي        

برفيقاته وبرفاقه الأبطال الذين ضحوا ومازالوا يقدمون الضحايا والاستشهاد من أجلك يا عراق. لقد ارتبطت بالحزب الشيوعي العراقي فعلياً في عام 1947، ولا زلت فكرياً معه لأنه يواصل النضال من أجلك يا عراق رغم الظروف الصعبة والقاتلة التي مر بها خلال مراحل مختلفة من تاريخك يا عراق. أنني لن أنسى عملاء أمريكا الذين سطوا على الحكم بـ"قطارهم الأمريكي" ليفتكوا بكل شيوعي وتقدمي عراقي في مجزرة 8 شباط عام 1963 بدون واعز من ضمير ولا شرف. إنني لن أنسى شهداء بواسل كسلام عادل وجمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وعبد الرحيم شريف وعدنان البراك و د.صفاء الحافظ والآلاف من تم الفتك بهم من قبل الأمريكان وبأيادي بعثية خلال حكمهم الأسود.

أنا أحبك يا عراق.... وهذا الحب العميق هو الذي ربطني بك برباط وثيق وأعطاني القوة والشجاعة كي اتحمل قساوة الحياة وقساوة البعض من أبناء جنسنا، وخاصة ما أصابني بعد القاء القبض علي يد انقلابيي 8 شباط المشؤوم في عام 1963. فقد قضيت عشرة أشهر قاسية في سجن رقم 1 في معسكر الرشيد. فقد حُشر 80 شخصاً في غرفة صغيرة، ورميت بحاجياتي خارج الغرفة. ولم يكن هناك متسعاً للنوم بحيث اضطررت للوقوف 24 ساعة على الأقدام. وعندما أصاب الخدر احدى قدماي، رفعتها قليلاً ولكنني لم أستطع إعادتها إلى حالتها الطبيعية وبقيت واقفاً على رجل واحدة طوال الليل. وفي اليوم التالي نقلت إلى غرفة أصغر مساحة مع 18 من الضباط الطيارين الشباب المعتقلين. ولمحت أحدهم مرمياً على أرض الغرفة فسألت عن حاله، فقيل لي أنه حاول الانتحار. استفسرت عن اسمه فقيل لي أنه ضابط كبير في الجيش أسمه (... العلي). وقد تذكرت هذا الاسم واقتربت منه ورحت اقبله متمنياً له الشفاء. وعاتبته على فعلته فقال لي:" لو تعرف يا حافظ مقدار التعذيب الفضيع القاتل الذي تعرضت له، لما عاتبتني... فالحياة لم تعد لها أية قيمة عندي". وبعد ذلك وبمساعدة أحد الضباط الشرفاء ، وهو من أبناء محلتنا صبابيغ الآل، نقلت إلى غرفة أصغر مع مجموعة من المثقفين ومنهم د. عبد الجبار عبدالله و د. ابراهيم عطوف كبه والفنان يوسف العني ود. مهدي المخزومي وآخرين. وكانت تلك فرصة نادرة رائعة قضيت خلالها أياماً ممتعة مع هذه الكوكبة التي تتميز بالثقافة العالية وبالقيم والأخلاق الرفيعة.

إنني أتذكر أنه كان في الغرفة المجاورة مجموعة أعتقد أنها من المواطنين الأكراد في مدينة كركوك، وقد حكم عليهم بالاعدام في عهد عبد الكريم قاسم. كان أحدهم ينادي الحرس :"كاكه محمد ..لخاطر محمد ...خلي محمد يروح للحمام". فقد كان الطغاة قد حددوا لكل غرفة خمسة دقائق فقط من كل يوم للذهاب إلى الحمام. وما لبث أن تم استدعاء هؤلاء السجناء ونفذ بجميعهم حكم الاعدام بدم بارد. وقد وعد صديق العمر الفنان يوسف العاني إن تصبح هذه الأحداث موضوعاً لأحد مسرحياته المقبلة. بقيت في هذه الغرفة حتى شهر تموز عام 1963، عندها اقتدت في الساعة الثانية بعد منتصف الليل مع مئات المعتقلين، وتم تقييد أيادينا إلى الوراء . وكنت على وشك أن يتم تسفيري مع هذه المجموعة في "قطار الموت" لولا حضور نفس الضابط الشريف في آخر لحظة وأدرك الموقف الحرج ونادى بأعلى صوته:"جميع الوزراء والمدراء العامين يخرجون من المجموعة لأن عليهم محاكمات..". وهكذا تم انقاذي من "قطار الموت" السيء الصيت والذي صمم من أجل الفتك بنا من قبل قادة البعث.

صادف وجودنا في الغربة، يا عراقنا الحبيب، دورة الخليج لكرة القدم. إنني لم أكن من هواة كرة القدم، بل من هواة كرة الطائرة التي مارستها في مقتبل عمري في "دربونة" بيتنا. ومارست هذه اللعبة أيضاً في المدينة الجامعية في مدينة باريس مع  شلة من رفاقنا

واصدقاءنا د. صفاء الحافظ وصلاح خالص وغيرهم. ولكن نظراً لمشاركة العراق في هذه الدورة، فقد التصقت بالتلفاز طوال أيام الدورة كي أشارك العراقيين فرحهم. كنت سعيداً عندما ربح الفريق العراقي أربع مرات. وكنت سأفرح أكثر لو نجح الفريق العراقي في السباق النهائي  وجاز على كأس البطولة.

عندما كنت في فرنسا، كنت اتابع  مشاهد جميلة وحضارية أفرح لها، ولكن في نفس الوقت كان الألم ينتابني وأحسد الفرنسيين على هذه المشاهد متمنياً للعراق أن ينعم بهذا التقدم والسعادة التي حققها المواطن الفرنسي ، يا عراق، بجهود وتضحيات وصبر خلال عشرات وعشرات السنين. إن كل شيء مهما كبُر أو صَغُر في مجال الخدمات يسير بشكل منظم كالساعة في هذا البلد. وتساهم أكثرية الناس مباشرة في الحفاظ على ما هو موجود وتحسينه عبر السنوات. وتصدر  المحافظة والدوائر المعنية في كل مدينة فرنسية صحفاً ومجلات شهرية تعرض فيها آراء المسؤولين والمواطنين حول الأوضاع السايقة والحالية والمستقبلية وبروح عالية من التعاون والتفاهم وتنفيذ ما هو مناسب من المقترحات. والإنسان له قيمة والوقت له ثمن. ويلاحظ الالتزام بالمواعيد والقول في كل مناحي الحياة وساعات العمل وأوقات سير وسائل النقل العامة وانتظام عمل دوائر البريد. كما يثير الانتباه الاهتمام بنظافة المدن والهدوء والاحترام المتبادل بين المواطنين، إضافة إلى الدراسة الجادة والمتطورة باستمرار في كافة المراحل الدراسية والعناية بالأطفال وكبار السن وتقديم الرعاية بهم حتى أخر لحظة من لحظات حياتهم. ويجري توفير السكن للجميع وبأسعار مخفضة للفقراء وكبار السن والمتقاعدين والمساعدة على توفير فرص العمل للعاطلين رغم ظروف الأزمة الخانقة التي تعصف بالدول الرأسمالية.

عندما ألمس لمس اليد ما يقدمه المجتمع المتحضر للإنسان من خدمات هائلة لا تعد ولا تحصى، أتألم لبقاءك يا عراقنا العزيز حتى الآن وأنت تعاني الأمرين بسبب القوى الخارجية وعملائها من الديكتاتوريين الذين تعاقبوا على حكمك رغم كونك من الدول النادرة التي تمتلك ثروات طبيعية وقوة بشرية هائلة بإمكانها تجعل العراق في مصاف الدول المتقدمة والمتحضرة التي تغمر مواطنيها بالسعادة.

حبيبي يا عراق...رغم إنني أعيش الآن في الغربة واتمتع بكل وسائل الراحة‘ إلاّ أن الحنين إليك هو ما يراودني بالدرجة الأولى. يا حبيبي يا عراق ... لقد أشتد حبي وتعلقي وتفكيري بك منذ أن رمتنا الظروف على قارعة جادة الغربة رغماً عنا وبدون أن نتوقع ذلك بعد أن تعرضت عائلتي إلى حادثة في ربوعك يا عراق. فلقد جرى اختطاف ولدي وحفيدي شكر من قبل نفر من المجرمين المندسين في صفوف الشرطة. ومرت بنا أوقات عصيبة للغاية ساوم خلالها المجرمون بالتلفون العائد لشكر طالبين فدية كبيرة تبلغ 2.5 مليون دولار لقاء إطلاق سراحهم. هؤلاء المجرمون كانوا على علم بأني كنت عضواً في مجلس إدارة مصرف الأئتمان وتصورا إنني من أصحاب الملايين. وفي هذا الظرف القاسي والقاتل من المساومات عبر التلفون، أوضحت لهم بأنني لا أملك هذا المبلغ وإنني أضع تحت تصرفهم كل ما أملك من رصيد في المصرف، وكان حوالي 12 ألف دولار. وطلبت منهم التحقق من المصرف. ولكن جوابهم كان في منتهى القسوة "عليك أن تدبر المبلغ وإلاّ ستستلم جثة شكر من الطب العدلي". أغلقوا التلفون وكدت أن أفارق الحياة. ولكنني قررت أن أقاوم حتى النفس الأخير. وكانوا يهددون في كل مكالمة أن لا أخبر السلطات عنهم وإلاّ سيكون مصير ولدنا في الطب العدلي. وقد تأكدوا من شكر بأننا ليسوا من أصحاب الملايين ولا نملك المبلغ الذي طلبوه ولا يمكن أن ندبره، حيث ذكر شكر لهم حجم رصيدنا الموجود في البنك. التجأت إلى المدير المفوض للبنك السيد فؤاد الحسني، وشرحت له الأمر وسألته فيما إذا من الممكن منحي قرض فيما لو طلبوا زيادة في الفدية كي أستطيع أن اسددها. فأجاب السيد المفوض مشكوراً بالإيجاب.

وصل خبر الاختطاف وطلب الفدية إلى علم شقيقي حمدي  التكمجي في العاصمة الأردنية عمّان، فوعد بتقديم المساعدة بأي مبلغ. وتكررت الاتصالات التلفونية التهديدية من قبل الخاطفين. وبعد اسبوع من العذاب واقتناع الخاطفين بعدم استطاعتي دفع المبلغ، وافقوا على اطلاق سراحهم مقابل 100 ألف دولار. لا أريد الحديث حول كيفية تسليم المبلغ وإطلاق سراح المخطوف فهو جزء من فلم بوليسي مرعب. وصل ابني إلى البيت بهيئة مختلفة وفي حالة يرثى لها وجسمه مملوء بالقروحات. وما أن رأيته حتى انفجرت بالبكاء الشديد لأول مرة في حياتي.

وهكذا يا عراق وفي ظل متابعة المجرمين لحفيدي شكر والرعب الذي خيم على العائلة، ترك ابني سعد العمل وترك الاحفاد الدراسة وانتقلوا إلى فرنسا بمساعدة من السفارة الفرنسية قبل 8 سنوات. والتحقت مجبراً بهم لأنه لم يبق من يوفر العناية لي في العراق وقد بلغت من العمر 86 عاماً، لإنه خلال طوال حياتي لم أتحمل الغياب عنك يوماً واحداً خلال عشرات الإيفادات والسفرات. هذا على الرغم من أن الحياة في فرنسا متطورة ومتحضرة وقد سبقونا ربما بأكثر من 100 عاماً عن ظروف الحياة في العراق وحياة الشعب العراقي في جميع الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية والصحية..الخ، وما يتوفر من خدمات والاحترام الذي يسود العلاقات الانسانية  وما يحصل من تقدم في ل يوم في مجال النشاط الإنساني.

ورغم كل ذلك فإنني أعيش في وحشة بعيداً عنك يا عراق. إنني التصق يومياً أمام شاشة التلفزيون كي اتابع اخبارك الصغيرة والكبيرة، وأشارك العراقيين آلامهم وأفراحهم على قلتها بسبب بقايا وآثار الاستعمار وعملائه وأذنابه، رغم ما تعرضت له بسبب هذه المأساة الرهيبة والمشاكل العائلية الأخرى إلى 3 جلطات في الدماغ مصحوبة بشلل في اليد اليمنى وضعف في القدرة على المشي والتوازن والكتابة رغم ما طرأ من تحسن بعد العلاج بمقدار 70%-80%، وبعد أن دأبت على تناول الحبوب لتفادي جلطات قادمة.

وهكذا ترى يا عراق في أي وضع أعاني منه في عالم الغربة رغم العناية الكبيرة التي أتلقاها من أولادي سعد وكريم وابنتي الحبيبة أنيسة وأولادهم وبناتهم. فبدونهم لا أعرف كيف يمكن أن اتحمل عنك عذاب الغربة. أكتفي اليوم بهذا القدر من الهمسات لأن قصص حبك لاتنتهي ....أنها حياتي يأكملها.

فرنسا- كانون الثاني 2013