المنبرالحر

الذمة المالية لزعيمي الثورتين المصرية والعراقية / رضي السمّاك

تمر في مثل هذا اليوم الذكرى الثامنة والخمسين لثورة 14 تموز العراقية من عام 1958 بقيادة الشهيد الزعيم الركن عبد الكريم قاسم ، وبعد أيام قليلة تحل أيضاً الذكرى الرابعة والستين لثورة 23 يوليو / تموز المصرية بقيادة اليوزباشي جمال عبد الناصر ، ومع ان المُسلم به بأن كلتا الثورتين وكلازعيميهما أخفقا في دمقرطة النظام الذي جاءت به الثورتان ، إلا من الظلم التاريخي تصنيفهما مجرد انقلابين عسكريين كأي انقلابات عسكرية في العالم الثالث ما دام النظام السابق المدحور في كلا البلدين وقع تحت تأثير الاحتلال والاستعمار الإنجليزي، وما داما كلا النظامين "الليبراليين " كان يفتقد للإرادة الوطنية السياسية الكاملة ، وبالتالي فإن الثورتين وإن نفذها الجيش قفد كانتا تُعبر عن أهداف وأماني شعبية في التحرر الوطني والاستقلال الناجز وحظيت مل منهما بشعبية جماهيرية هائلة لا تحظى بها عادة الانقلابات العسكرية في المنطقة العربية . كما جاءت كلا الثورتين في ظل ظروف موضوعية مميزة لخصائص مرحلة تاريخية من حركة التحرر الوطني العربية والعالمية . مهما يكن فمن اللافت ان الزعيمين الوطنيين ، ناصر وقاسم ، ورغم الطابع الوطني الشمولي لحكم كل منهما فانهما مقارنة بقادة هذا الزمان المنتخبين كانا اكثر طهارةً في الذمة المالية ، بل وتقلصت في ظل حكم كل منهما نسبة الفساد إلى حدود دُنيا غير مُقلقة ، كما لم يُسجل في ظل أي منهما استغلال الحاكم الشمولي لنفوذه السياسي للاثراء الشخصي ، وقد يختلف الكثيرون في تقييم النهج السياسي الذي اتبعه كلا الرجلين في الحكم أوالفكر الذي يتبناه ، لكن مالا يختلف عليه اثنان من المحللين والباحثين المتجردين من الهوى السياسي انهما تركا السلطة راحلين عن دنيانا وذمتهما المالية الشخصية لاتشوبها شائبة من حيث الطهارة . علماً بأن أحد الاسباب الرئيسية لنجاح الانقلابيين في وأد ثورة تموز العراقية سنة 1963 تمثل في دعم عبد الناصر لهم حيث لم يكن يرتاح لخط قاسم السياسي المستقل الرافض السير في ركابه بعدما أضحى يتمتع بشعبية جارفة في العالم العربي .
ومع ان الشواهد والقصص التي تُحكى على ذمة عبد الناصر اكثر مما تحصى كما رُويت خلال وبعد حكمه ، فحسبنا ان نشير هنا إلى فقرة اخبارية بثتها "قناة الجديد " اللبنانية قبل خمس سنوات ، لما تتمتع به هذه الفقرة من مصداقية لاعتمادها لغة الارقام و التوثيق الموضوعية ، كما من اللافت ان هذه الفقرة الأخبارية حُمّلت على اليوتيوب منذ خمس سنوات ومع ذلك مازال يجري تداولها في عالمنا العربي على اوسع نطاق من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ،للإستشهاد بها كلما فاحت رائحة جديدة من روائح الفساد العربي في وسائل الاعلام العربية كافة . ومما جاء في هذه الفقرة عن ذمة ناصر : " مرتبه الشهري 500 جنيه ، إضافة إلى بدل التمثيل 625 جنيهاً ، وبالتالي صافي الراتب الذي يتقاضاه 395 جنيهاً ..." . وفيما يتعلق بممتلكاته الشخصية فكانت كالتالي : سيارة أوستين يمتلكها منذ ما قبل ثورة يوليو 1952 ، 8 أزواج من الأحذية ، 3 ماكينات للتصوير ، آلة عرض سينما ، عشر بدلات ومحموعة من الكرفتات ، اما ما تركه من مال يوم رحيله فقد كان 84 جنيهاً ، ولم يترك لاسرته منزلاً او ملكاً خاصاً ممنوحاً من الدولة او منهوباً من المال العام " .
أما فيما يتعلق بكشف الذمة المالية لعبد الكريم قاسم غداة اعدامه في دار الاذاعة اثر الانقلاب العسكري الفاشي الدموي البعثي في نهار 14 رمضان المبارك من العام الميلادي 1963، فمن أفضل الشهادات الموضوعية على نزاهته جاءت على لسان اثنين من ألد أعدائه ، الأول هو طالب شبيب عضو القيادة القومية ووزير خارجية الحكومة التي جاء بها الانقلاب ، والثاني هو هاني الفكيكي عضو القيادة القطرية لحزب البعث في العام 1963 ، عضو المجلس الذي شكله الانقلابيون الفاشست بإسم " مجلس قيادة الثورة " ، وفي هذا الصدد يقول شبيب : " ... ان الجمهور العراقي العريض ظل منذ رحيل قاسم ولحد اللحظة الراهنة حذرٌ من تأييد كل الحكومات التالية ، وظلت ذاكرة عبد الكريم قاسم مثيرة للاهتمام اكثر من غيرها ،وطيبة في أذهان كثيرين ، بل ان قاسم ظل يضيق على كل الحكام اللاحقين بسبب إدمان الشعب على مقارنتهم به" . ويضيف : " وجدنا ان ركنه في وزارة الدفاع يتكون من غرفة نوم واحدة ، وحمام جيد بمستوى اوربي ، وغرفة جلوس صغيرة جداً .... وكانت عينه شبعانة فلم يطمع وهو حاكم العراق الوحيد ببستان أو قطعة أرض ، في حين سعى كل حكام العراق الذيين سبقوه والذين خلفوه للكسب والاستيلاء وسرقة المال العام ...." .
( انظر شبيب ، "عراق 8 شباط " ، وانظر أيضاً الفكيكي ، "أوكار الهزيمة " ) .
وحسب مصادر مستقلة عديدة ،لا يتسع المقام هنا لتعدادها جميعها ، فإن مرتب قاسم الشهري 440 ديناراً عراقياً يرسل منها 100 دينار إلى شقيقه حامد لنفقات غذائه اليومي الذي يأتي به إليه في وزارة الدفاع ب " سفرطاس غذائه " المفضل لديه والذي تعود عليه منذ أيام عمله في الجيش ، و100 الى شقيقته ام طارق ، و40 دينار يُسدد لمأكولاته من مطعم الوزارة ، أما المئتي دينار المتبقية فتودع في خزانة مكتبه لينفق شهرياً جزءاً منها على الفقراء خلال جولاته التفقدية للاحياء الشعبية ، ولم يجد الانقلابيون في هذه الخزانة الا بضعة دراهم ، وحينما فتشوا اوراق مكتبه وجدوا قوائم باسماء الفقراء المحتاجين إما للقمة العيش وإما للسكن وإما للكساء وإما للعمل ، وفق ما جاء في أحد المصدرين المشار اليهما آنفاً .
وهكذا فإنه إذا كان من الصعوبة بمكان القول ان النظامين الناصري المصري والقاسمي العراقي كانا ديمقراطيين ، فمن التعسف أيضاً مساواتهما بالانظمة الشمولية دون النظر كما أسلفنا لخصائص المرحلة التاريخية لحركة التحرر الوطني التي حدث خلالها كلا " الانقلابين " ودون النظر أيضاً لطيبعة النظامين المُنقلب عليما واللذان كانا خاضعين لتدخل وسيطرة الاحتلال الاستعماري ثم أحدثا تحولات اجتماعية تقدمية هامة لصالح شعبيهما .
ولننظر إلى حجم الفساد المهول غير المسبوق تاريخياً في عهدي الرئيسين اللذان خلفا على التوالي قائد ثورة يوليو / تمود عبد الناصر ،ألا هما أنور السادات وحسني مبارك واللذان رفعا شعارات الاصلاح والديمقراطية بتسويق اميركي - غربي مقارنة بعهد عبد الناصر ، ولنقارن أيضاً حجم الفساد الكارثي الرهيب وغير المسبوق تاريخياً في ضخامته منذ نحو قرن من نشوء الدولة العراقية وفي ظل عشر سنوات فقط من حكم حكومات منتخبة بحجم الفساد الأقل نسبياً في ظل نظام الدكتاتور المقبور ، بل ولننظر الفساد في كلا النظامين ، السابق والحالي ، بعهد قاسم الأنصع بياضاً .
بيد ان ان جرائم الفساد التي اُرتكبت في ظل الحكومات المتعاقبة بعد اسقاط نظام صدام حسين والتي جاءت كما يُفترض للسلطة انتخابياً عبر صناديق الاقتراع وتحت شعار تخليص الشعب من أرث فساد ودكتاتورية النظام السابق هي افدح من الانظمة السابقة مجتمعة كونها تتم والسواد الأعظم من الشعب المغبون يرزح قي ظل اوضاع مأساوية وأزمات كبرى متعددة الاوجه سياسياً وامنياً واقتصادياً ومذابح جماعية على ايدي "داعش " وسائر الجماعات الارهابية على نحو مزرٍ لم يشهد له العراق مثيلاً طوال تاريخه الحديث ، وللأسف يحدث كل ذلك في وقت والشعب العراقي هو في أمس الحاجة لكل درهم لمواجهات تبعات كل تلك الكوارث على الاصعدة المعيشية والإسكانية والاقتصادية عامة فضلاً عن الاصعدة التعليمية والصحية وخلافها !