المنبرالحر

بريطانيا بين " تقرير تشيلكوت " وماضيها الاستعماري / رضي السمّاك

أياً يكن ما اعتور تقرير نتائج التحقيق في دواعي الحرب الامريكية - البريطانية على العراق عام 2003 والمعروف بتقرير "تشيلكوت " من ثغرات ومآخذ إلا ان لا أحد ينكر بأنه توخىٰ قدراً معقولاً من الموضوعية والنزاهة بما يعكس بدرجة أو اخرى عراقة وترسخ النظام الديمقراطي البريطاني ، ولذا ليس مفاجئاً أن يكون أكثر من عارض التقرير هم أنفسهم صقور الحرب الذين قرعوا طبولها، كالرئيس الاميركي السابق جورج بوش الإبن ، ورئيس الوزراء الاسترالي جون هاورد بالإضافة إلى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي لم يقدم اعتذاراً صريحاً مكرراً اجتراره المقولة المبتذلة لمثله الأعلى بوش " ان العالم أفضل من دون صدام " ، وكأن العالم أفضل بوجود بوش وبلير حينها أو بوجود الامبريالية الامريكية وما يشكلها هذا الوجود في طوره النيوليبرالي الأناني المتوحش للسيطرة على العالم من مخاطر على السلم العالمي ومصالح واستقرار شعوب العالم أجمعها .
وكما هو معروف فإن جوهر التقرير يخلص إلى ان انسياق لندن وراء المخطط الاميركي بقيادة جورج بوش الإبن والذي وعده بلير بالوقوف معه "مهما كان " ومن ثمَ شاركه في الإنخراط الفعلي الأعمى في الحرب على العراق الذي مازال شعبه يدفع أثمانها كارثية غير مسبوقة على مدى تاريخه القديم والحديث من دمائه وقوته وعمرانه وتفتيته وصراعاته الأهلية المذهبية والطائفية والإثنية لم تكن سوى دواعي مبنية على الاكاذيب تحت شعار انقاذ العراق والمنطقة من اسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها صدام وإسقاط نظامه وإحلال نظام ديمقراطي فيه . وكما هو معروف فمما جاء جاء في تصريحات رئيس اللجنة جون تشيلكوت : " استنتجنا أن بريطانيا قررت الانضمام إلى اجتياح العراق قبل استنفاد كل البدائل السلمية للوصول إلى نزع أسلحة البلاد ، فالعمل العسكري لم يكن حينذاك حتمياً" وأضاف ان لندن " استندت إلى معلومات أجهزة استخبارات لم يتم التحقيق منها بشكل كافٍ " .
ولقد تسبب قرار بلير بتحالفه الذيلي مع امريكا في الحرب على العراق بمشاركة 45 ألف جندي بريطاني في قتل عشرات الألوف من العراقيين واندلاع العنف الطائفي الحاد وخلق بيئة مؤاتية لإنطلاق منظمات ارهابية تعيث في أرض الرافدين فساداً وترتكب مذابح جماعية متواصلة بحق العراقيين الأبرياء على مدى عقد ونيّف تقريباً من الغزوالاميركي البريطاني للعراق ، كما أوضح التقرير أنه كان بالإمكان اتباع استراتيجية الاحتواء مع العراق بدلاً من التسرع بشن الحرب وتبرير التخلي عن برنامج الامم المتحدة في أعمال الرقابة والتفتيش الذي مازال مستمراً وقتها عشية شن الحرب ، وأن الحكومة البريطانية قوّضت سلطة مجلس الأمن في الحفاظ على السلام . ولم يتوانَ التقرير عن اتهام حكومة بلير بأنها استهانت بعواقب الغزو وفشلت في التنبؤ بحال عراق مابعد صدام ، وتسببت في مقتل 200 بريطاني وبمصرع مالايقل عن 150 ألف عراقي حتى سنة 2009 .
بطبيعة الحال فلعل الخسائر التي تكبدتها بريطانيا في أعداد القتلى ، بالرغم من أنها لا تتجاوز مائتي قتيل ، وكذلك الخسائر في المجالات الاقتصادية والعسكرية ، نقول لعل كل ذلك هو الدافع الأول لتشكيل لجتة التحقيق وصدور التقرير اكثر مما تسببته الحرب التي شاركت فيها الحكومة البريطانية من كوارث ومآس كبرى دامية مازال الشعب العراقي يتجرع أهوالها، حيث جاءت الإشارة إلى هذه الجريمة عرضاً ، وبالتالي فلا يُتوقع أن تعتذر بريطانياً رسمياً لا للشعب العراقي ولا لحكومته عن جرائم الحرب التي شاركت فيها ، دع عنك تعويضه مالياً وهو تعويض مُحق ومشروع ، لكن أهمية التقرير إنما تكمن في قيمته المعنوية والأدبية على المستويين البريطاني والعالمي في فضحه التضليل الذي مارسته الحكومة البريطانية بحق شعبها لتبرير خوض الحرب ، وهذا ما سيعزز الحاجة إلى توعية الشعب البريطاني ومؤسساته السياسية المدنية والإعلامية بإهمية اهتمامه بالسياسات الخارجية لحكوماته المُنتخبة وبخاصة في قضايا الحرب والتدخلات العسكرية لما لها من انعكاسات سلبية عليه وليس فقط انعكاساتها المدمرة على البلدان ضحية حروب التدخل .
مهما يكن فإن تقرير تشيلكوت يُعد من التقارير الرسمية النادرة لدولة عظمى غربية عُرفت بماضٍيها الإجرامي الاستعماري المقيت ، وإن لم تعترف بالطابع الإجرامي العنصري لهذا الماضي . على ان بريطانيا التي شاركت امريكا في غزو العراق هي نفسها من ارتكبت غزو عسكري بحق شعبه وسبق لها أن احتلته واستعمرته بمفردها خلال الحرب العالمية الأولى ( 1914 - 1918 ) مثلما فعلت بمصر والسودان وفلسطين والأردن ، وسبق لها أيضاً قبل ذلك أن كبلت معظم بلدان الخليج العربي باتفاقيات تمس سيادتها وتنتقص من استقلالها ونشرت قواعد عسكرية على أراضيها . وبهذا فقد ترك ماضيها الإستعماري المقيت جروحاً نفسية تاريخية نادبة لم تُمحَ من نفوس هذه الشعوب مجتمعةً ، فما الذي يمنع بريطانيا منذ انسحاب قواتها من كل تلك البلدان حتى الآن عن تشكيل لجان تحقيق تصدر تقارير مماثلة لتقرير تشيلكوت عما إذا إذا كان قرارها باحتلال كل من هذه البلدان ينبع من ارادة شعبية كاملة ويعبّر حقاً عن القيّم الديمقراطية التي تؤمن بها ؟ أم ان تلك الغزوات نابعة عن مطامع طبقة رأسمالية شرهة تتناوب في السيطرة في الوصول إلى السلطة من خلال احزاب تقليدية محدودة وبشعارات براقة ؟
ثم أين هي لجنة التحقيق في مدى قانونية وشرعية وعد بلفور بانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين العربية ومن ثم دعمها العصابات الصهيونية سياسياً وبالمال والسلاح للهجرة إليها وصولاً إلى تواطؤها مع العصابات الصهيونية بالانسحاب من فلسطين دون ترتيبات مسبقة مع ممثلي شعبها ودون اكتراثٍ بعواقب ما بعد الانسحاب الذي تسبب بعدئذ في نكبة شعبها وتشريده وتعرضه لسلسلة من المآسي والحروب الكارثية على ايدي الدولة الصهيونية الجديدة التي اغتصبت وطنه طوال نحو سبعة عقود إلى يومنا هذا ؟ دع عنك دعمها الدؤوب بعدئذ لهذه الدولة سياسيا واقتصادياً وتنكرها لمساندة حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه وسائر حقوقه السياسية ؟